من يقرأ رواية بوعلام صنصال “قرية الألماني” (منشورات غاليمار)، سرعان ما يفكر في طبيعة علاقة الروائي بالتاريخ، ويسأل كيف تكون؟ وما هي طبيعة مقاربة الحدث التاريخي؟ فهل الانسياق وراء الخيال والوقوف وراء الإبداع يعطي الروائي حق القراءة الميتاريخية، ويضع نفسه في نفس مستوى المؤرخ. لقد أورد صنصال في هذه الرواية حادثة يُريد أن يجعلنا نتوهم أنها واقعية، مفادها أن نازيا ألمانيا يدعى هانز شيللر، نجا من محاكمات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن شارك في إبادة اليهود. وبعد الحرب هاجر إلى تركيا ثم مصر، وأرسله الرئيس عبد الناصر للمشاركة في الثورة الجزائرية، فاندمج فيها وأصبح محاربا محترما. وبحسب صنصال فإن الألماني النازي استقر في سطيف، تزوج بها، واعتنق الإسلام. وما يريد صنصال إبلاغه للقارئ الفرنسي هو أن جبهة التحرير الوطني تربطها علاقة وثيقة بالنازية، وكلاهما يلتقيان عند مسألة “الوطنية الاشتراكية” المفرطة. والغريب أن أحد المقربين من صنصال أخبرني أن هذا الأخير حدثه عن الرواية لما كانت مشروعا، ولم يكن حينها ينوي وضع علاقة بين النازية والثورة الجزائرية، فاندهش كيف تحولت الرواية إلى هذه الكيفية الغريبة والمثيرة للتساؤلات والجدل. ومع هذه الرواية الجديدة، يبدو أن صنصال ذهب إلى أبعد فيما يتعلق بتناول مواضيع يقول إنها تندرج ضمن خانة “المحرمات”، بينما الحقيقة غير ذلك، فالنية التي لديه، وهو يخلق علاقة وطيدة بين الثورة والنازية، تثير كثيرا من التساؤلات حول أعماله بخصوص الفكرة التي يروج لها، والتي تقول إن النازيين أثروا في ثورة التحرير. لم يسبق لي، وأنا أقرأ مؤلفات حول الثورة الجزائرية، أن عثرت على وجود علاقة بين النازية وثورة نوفمبر. صحيح أنه كانت هناك محاولات لربط اتصالات بين أعضاء من حزب الشعب وهتلر خلال الحرب العالمية الثانية، بواسطة جماعة من القصبة أسست “اللجنة الثورية لشمال إفريقيا” الموالية للنازية، لكن التعليمات التي صدرت من مصالي الحاج من السجن أنهت هؤلاء عن الخوض في مزيد من الاتصالات. وكان مصالي واعيا بخطر النازية، ونصح المناضلين بعدم الثقة في هتلر، وأخبرهم أنه عنصري لا يكن أي احترام للعرب، وأن اتصالاته مع الحاج حسين مفتي القدس لم تكن سوى محاولات دبلوماسية لكسب ود العرب لصفه في مرحلة أولى، ثم الانقلاب عليهم والحلول محل بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهما. ومن جهته رفض الدكتور لمين دباغين الذي كان على رأس حزب الشعب خلال تلك المرحلة العصيبة، هذه الأطروحات، فوقف إلى جانب جماعة بلكور التي حاصرت جماعة القصبة، وانتهت فكرة الرغبة في التحالف مع النازية عندما أعدم محمد بوراس من قبل السلطات الاستعمارية، بعد اكتشافها لأمر اتصالاته مع ألمان نازيين بالجزائر العاصمة، بغية الإعداد لعمل مسلح ضد فرنسا والتخلص من الاستعمار. وكان بوراس قد تلقى وعودا من النازيين لتدريب الجزائريين في برلين للشروع في ثورة مسلحة ضد فرنسا الاستعمارية، لكن دون أن تكون لديه نية اعتناق الأفكار النازية. إن ما يريد صنصال أن يجعلنا نصدقه يبدو أمرا مستحيلا في غياب وثائق تاريخية تؤكد ذلك. فقد كان للثورة عمل دبلوماسي جعلها تتوخى الحذر في علاقتها مع الشيوعية ومع الأمريكيين على حد سواء. فالكل يعلم أن امحمد يزيد، رغم ميله للطرف الأمريكي عبر علاقاته باللوبي الذي كان يشكله جون جون فيتزجيرالد كينيدي في البيت الأبيض بواشنطن لمساندة الثورة الجزائرية، من منطلق قطع الطريق على الاتحاد السوفيتي، سرعان ما أدرك أن الأمريكيين لهم مواقف غير واضحة، فأصبح من أتباع فكرة عدم الانحياز التي برزت مع اجتماع باندونغ. إن رواية “قرية الألماني” ليست في نهاية الأمر سوى عملا متخيلا يُسقط على التاريخ قراءات منحازة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات