لقد ربط العديد من الكتاب العرب إشكالية النهضة في الوطن العربي بالفجوة المعرفية بين العرب والغرب، وهذا خطأ في إدراك الشيء، فالعلم عنصر محايد وتمتلكه جميع الشعوب ولو بنسب متفاوتة. فالمشكل ليس في اكتساب المعرفة، فالوطن العربي مليء بملايين المهندسين وطلبة الجامعات وفي جميع التخصصات المعرفية، وهناك مئات النخب العلمية المنتشرة في العالم تعتبر من مصاف العلماء. فدول مثل الجزائر ومصر والمغرب والسعودية والعراق مثلا تمتلك نخبا علمية، بالمفهوم الكمي، قادرة عمليا على إحداث نهضة، ولكننا نرى العكس تماما، وبالتالي فمشكلتنا تتعلق بشيء آخر، وهي مشكلة الثقافة التي تعبر عن أسلوب الحياة في مجتمع ما، وسلوك الفرد الذي يعبر عن هذا الأسلوب.فلو أخذنا مثالا عن فرد من الحضارة الغربية، طبيبا كان أم راعيا، لوجدنا أن هناك توافقا كبيرا في طريقة تعاملهما مع مواقف الحياة وبفاعلية كبيرة، رغم الاختلاف الكبير من الناحية الفنية في التخصص الوظيفي، وسيظهر الفرق جليا لو كان ذلك الراعي طبيبا عربيا.فرغم التماثل الوظيفي والفني بين الطبيب العربي والطبيب الغربي، إلا أن سلوكهما يختلف، فيتميز الأول بانعدام الفعالية، أما الثاني فيكون ذا فعالية عالية رغم امتلاكهما للقدرة والمعرفة العلمية نفسها، وبالتالي فهذه الثقافة التي نشترك بها والتي تحبط كل جهد فكري ونهضوي نابعة من داخلنا وذواتنا، والتي يمكن أن نعبر عنها بالثقافة الداخلية للمجتمع العربي، وهي من صنع المجتمعات العربية، والتي توارثناها عبر الأجيال منذ سقوط الحضارة الإسلامية.وهناك عنصر مهم آخر ساهم بشكل كبير في إحباط أي جهد نهضوي، ويتعلق الأمر بالثقافة المسلطة من الخارج، والتي برزت بشكل كبير مع ظاهرة العولمة، والتي تمتلك قدرة كبيرة على اختراق المجتمعات لارتباطها بالتقنية، وما انجر عنها من بروز نخب مجتمعية مشبعة بالفكر الغربي والثقافة الغربية وتتبنى ما يصطلح عليه “نماذج التنميط” و«سياسة القوالب الجاهزة”، فهذه النخب عبارة عن فرد هجين مشبع بالفكر الغربي ويمتلك في أعماقه عقدة الانحطاط والتخلف، فنرى تعدد النماذج المعروضة أمامنا من ديمقراطية وحكم راشد وتعددية وحماية حقوق المرأة، وليبيرالية اقتصادية وغيرها من النماذج التي صيغت في الغرب، وكأن عقولنا الفتية أصبحت عاجزة عن الابتكار، ولها القدرة على الاختيار فقط، وانتقلنا من مرحلة تكديس وسائل الحضارة الغربية إلى “مرحاة” تكديس الأفكار، وهذه المرحلة الأخيرة أشد خطورة على المجتمع العربي من المرحلة الأولى.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات