منذ يومين، وأنا أهِم بالدخول إلى المكان المخصص للصحفيين بمسرح الكازيف، اعترض طريقي عون أمن وطالبني باستبيان ورقة ”تكليف بمهمة” للدخول، قدمت له بطاقة الصحفي،لم ينظر حتى فيها، وقال: ”لا أعترف إلا بأمر بمهمة”، رغم محاولاتي اليائسة لشرح الأمر، لم يستوعب كلامي.. فقلت له ”غريب هذا الأمر، سأتحدث للمدير العام للديوان الوطني للثقافة والإعلام لخضر بن تركي، لأنقل له الانشغال”، فرد: ”ولا أريد أن أصف لكم كيف وعليكم أن تتخيلوا) ”لا أعترف بأي أحد هنا”.. للإشارة أكبر متاحف في تركيا يدخلها الصحفيون دون دفع الرسوم، فقط عليك أن تبيّن بطاقة صحفي وتدخل مهما كان البلد الذي جئت منه. بعد أخذ ورد، جاء شاب آخر يبدو أنه المسؤول عنهم (هكذا كان يبدو)، وقال لي لن تدخلي إلا بأمر بمهمة، قلت مرة أخرى سأتكلم مع بن تركي، نظر إلّي عون الأمن وهو يشير إلى ذلك الشاب، قائلا ”هذا هو بن تركي، هذا الكل في الكل”، طبعا فهمت أنه المسؤول الأول.. هدأت النفوس بعد شجار ودخلت بتدخل مسؤول الإعلام، والى هنا القضية عادية جدا، إلى أن جاء ذلك الشاب ”الكل في الكل”، يتحدث بفوقية وتعال وقال لي بهذه اللهجة ”شوفي ما كان لاه تلعبيها وتتكلمي باسم بن تركي، أنا ابن لخضر بن تركي إنه أبي” .. صدّقوني أحسست لحظتها بزلزال، وكأنني أحضر حفل زفاف لأحد أبناء بن تركي وغير مرحّب بي، لأنني لا أحمل بطاقة الدعوة يعني ”ماعرضونيش للعرس”، ولم أدخل مسرح الكازيف لأغطي حفلا ترعاه مؤسسة وطنية تحت إشراف وزارة الثقافة .. نعم يا ”سي بن تركي”.. من حق ابنك أن ينسب وظيفتك إلى نفسه ويتكلم باسمك، لأن المسؤولية في الجزائر تورّث كما تورّث العقارات، كما تورّث اللامبالاة وقلة الكفاءة والرداءة، ولا يهم. نعم.. يا سي ”ابن” لخضر بن تركي، لا أعرف من تكون، أصبحت أعرف فقط أن في الديوان الوطني للثقافة والإعلام هناك مديران ”بن تركي” وهناك ”ابن بن تركي” .. أنا لا أتحامل على الرجل وأقصد لخضر بن تركي، الذي أعرف أنه يحترم الإعلام كثيرا، لكن تصرف ابنه يمثل ظاهرة أصبحت تتكرر في مؤسسات عديدة في الجزائر.. ولا غرابة أن تورّث المسؤولية في الجزائر، ألم نر حكومة 80 في المائة من وزرائها من جهة واحدة و«دشرة” و«دوار” واحد، بل إن أكثر المناصب حساسية يشغلها أبناء منطقة واحدة، وأكبر المشاريع يسيّرها أبناء المنطقة نفسها.. وأكبر القطاعات يرأسها أبناء تلك المنطقة.. إنه منطق توريث الجزائر .. هناك عائلات كثيرة في مواقع عديدة ومتعددة تستفيد من هذا التوريث المسكوت عنه، والذي أصبح ظاهرة تهدد مصالح الجزائر ومستقبلها، ويا ليته يتم وفق الكفاءة والقدرة والخبرة والنزاهة، لهان الأمر مهما تعاظم وكبر في نفس أبناء شعب متعدد، ووجوده ممتد على مساحة مليوني متر مربع.. إنها قضية خطيرة وفيروس انتشر من أعلى هرم في السلطة، ليغزو كل أوصال الدولة الجزائرية والمستقبل لن يرحمنا.. تذكّرني هذه الظاهرة عندنا بما آلت إليه الخلافة الإسلامية بعد عثمان بن عفان، الذي قام بعد توليه الخلافة حسب المؤرخين، فجعل بني أمية عزوته وقلّدهم أعلى المناصب في الخلافة، وجعلهم على رأس أغنى الولايات الإسلامية، وجعلهم قادة الجيش، مما قوّى شوكتهم أمام باقي القبائل، وما حدث بعدها من تحول الخلافة إلى دولة، ثم إلى ملكية استأثر بها بنو أمية، وما انجر عنها من صراعات ومؤامرات وفتن ومجازر يعلمها الجميع في التاريخ الإسلامي.. في الجزائر التي تضرب فيها الرداءة والجهوية والعشائرية أطنابها، الخوف كل الخوف أن نتحول بالدولة إلى مفهوم آخر، بعد أن أصبح الأمر كالسرطان الخبيث الذي يجتاح جسد الأمة في صمت، والخوف أن نصحوا بعد فوات الأوان ولن ينفعنا بعدها حتى الكي.. (أستسمح قراء ”الخبر” إن بدأت المقال بأمر شخصي).
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات