رحل سميح القاسم ”منتصب القامة يمشي”

+ -

توفي يوم الثلاثاء الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز 75 سنة، إثر إصابته بسرطان الكبد منذ 3 سنوات، وكان يخضع بسببه لجلسات العلاج الكيمياوي. وتدهورت صحة القاسم في نهاية الشهر الماضي، ونقل إلى ”مستشفى صفد”، في منطقة الجليل بالشمال الإسرائيلي، حيث خضع للعلاج، الذي أشرف عليه صديقه الذي رافق وضعه الصحي، البروفيسور الفلسطيني جمال زيدان. رحل صاحب ”لا أستأذن أحداً” الشاعر الفلسطيني سميح القاسم من دون أن يستأذن فعلا، كما قالها يوما، وقد تدهورت صحته في الأيام الأخيرة، حسب ما تناقلته وكالات الأنباء.رحل الشاعر الذي يعتبر أحد أضلع ذلك الثالوث الشهير في شعر المقاومة الفلسطينية، رفقة كل من توفيق زيّاد ومحمود درويش، الذي شكّل معه إحدى أيقونات الشعر العربي المقاوم، وتجاوز به فكرة الانتماء إلى فلسطين، نحو فضاء أرحب ضمّ العالم العربي والإنساني ككل.الموت يدرك أنه ليس زمن الشعراء المقاومينيدرك الموت أن هذا الزمن ليس زمن الشعراء المقاومين، فبدأ يأخذهم واحدا تلو الآخر، كان على الموت أن يكون أرحم على من قاوم ضد كل مستعبد ومغتصب، وقاتل بالقلم الصادق والموقف الشجاع والكلمة المدوّية، فاختار سميح القاسم ليرحل وغزة تحت دوي القصف والموت في كل حين. وليس غريبا أن يموت سميح القاسم في شهر أوت، لأن الأرواح المتشابهة تستدعي بعضها، فرحل محمود درويش وسميح القاسم في الشهر نفسه، وكأن القدر أراد أن يكون الحزن عليهما مترادفا ومرادفا، وتذكرهما متتاليين في الحياة والموت، كما كان شعرهما واحدا من خصر الآخر.. شعر مقاومة في أعظم فترات الأدب والمقاومة الفلسطينية، حين امتزج فيها حبر الشعراء بدم الشهداء. فتحت السماء بابها في تلك الفترة لمحمود درويش، ليصعد نجما لامعا، وكان رفيقه القاسم زياد يقاسمه الفضاء، وسكن معهما سميح قاسم، سماء الإبداع ونقلوا دوي الأرض في قصائد عكست ارتباطهم بالوطن، وشكّلت وعي الشباب العربي المقاوم. حجز الثلاثي لهم مكانا في الوجدان العربي، فكتب فيهم نزار قباني قصيدته الشهيرة ”شعراء الأرض المحتلة” عام 1968، وألّف حولهم النجم الآخر غسان كنفاني كتاب ”أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” الذي صدر عام 1967. وعرف القاصي والداني سميح القاسم بقصيدته ”يا عدوّ الشمس”، تقول بعض مقاطعها ”ربما تسلبني آخر شبر من ترابي.. ربما تطعم للسجن شبابي..” إلى ”يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم.. وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم”. ومن أشهر ما قال القاسم حول الشعر المقاوم ”القصيدة لا تسقط الطائرات، بل تسقط أكاذيب وأوهام الاحتلال”، و«القول بأن المقاومة لم تعد مبررة هو خيانة فكرية وسياسية”. وهو صاحب النثرية الشعرية التي تتردد هذه الأيام: ”تقدّموا.. تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم، فكل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم”.الألم ينجب العمالقةولد القاسم، وهو متزوج وأب لأربعة أولاد هم ”وطن ووضاح وعمر وياسر”، في مدينة الزرقاء الأردنية في الـ11 من ماي عام 1939، لعائلة عربية فلسطينية من قرية ”الرامة”، وتعلّم في مدارسها ثم في الناصرة، ودرّس بها، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي، قبل أن يترك الحزب ليتفرغ لعمله الأدبي. يعدّ القاسم واحداً من أبرز شعراء فلسطين، وسجن أكثر من مرة، كما وضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي. وقد قاوم التجنيد الذي فرضته إسرائيل، وطُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي، وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في فلسطين وخارجها.. حظي سميح القاسم مبكراً بمكانة أدبية رفيعة، واسم شعري مرموق لدى الجمهور الفلسطيني والعربي، كيف ولا وهو من تراب أرض فلسطين المقدس، ممزوج بدماء الشهداء، ولد على صوت صرخة مقاوم، فخلد في ذاكرة الناس، كما الشهيد في ذاكرة الوطن، فأعطى فلسطين حبره ونبضه، كما أعطته الرقي والجمال وقدسية القضية. كانت قصيدته التي رددها الكبير والصغير، وما يزالون، ”منتصب القامة أمشي” وأداها صوت مارسيل خليفة، كالمصل في دماء الثوار، تزيدهم قوة وعزيمة. أدت هذه القصيدة التي ترسخت في الوجدان العربي إلى أن تطغى صورة شاعر المقاومة على صورة الشاعر الإنسان والعاشق والمحب، بل وعلى ما كتبه من نثر في مقالات عديدة.مسيرة إبداعية ومهنية راقيةشغل سميح القاسم، إلى جانب مسيرته الإبداعية، عددا من المناصب، فقد أسهَمَ في تحرير ”الغد” و«الاتحاد” ثم رَئِيسَ تحرير جريدة ”هذا العالم” عام 1966، ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً أدبياً في ”الاتحاد” وأمينا عاما لتحرير ”الجديد”، ثمَّ رئيس تحريرها. كما أسَّسَ منشورات ”عربسك” في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدارَ فيما بعد ”المؤسسة الشعبية للفنون” في حيفا. عيّن رَئِيسَ اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تأسيسهما، ورئيس تحرير الفصلية الثقافية ”إضاءات” التي أصدرها بالتعاون مع الكاتب الدكتور نبيه القاسم، وكان رئيس التحرير الفخري لصحيفة ”كل العرب” التي تصدر في مدينة الناصرة. أصدر سميح القاسم أكثر من 80 كتاباً، في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، وصدَرتْ أعماله في سبعة مجلّدات، عن دور نشر عدّة في القدس وبيروت والقاهرة. كما تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى أكثر من 20 لغة. ونال القاسم عدة جوائز ودروع وشهادات التقدير، وعضوية الشرف في عدة مؤسسات، فحاز على جائزة ”غاز الشعر” من إسبانيا، وعلى جائزتين من فرنسا، كما حصل على ”جائزة البابطين” الشهيرة، وأيضا على جائزة ”وسام القدس للثقافة” و«جائزة نجيب محفوظ” من مصر، وعلى ”جائزة السلام” و«جائزة الشعر” الفلسطينية، كما حصل مرتين على وسام ”القدس للثقافة” من الرئيس ياسر عرفات.   وصف فيه المثقفين العرب بـ”القطيع من المرتزقة”قصة حوار مع سميح القاسم كنت جالسا أمسيتها في أحد صالونات فندق ”ماريوت” الزمالك بالقاهرة.. كان اليوم 31 أكتوبر من سنة 2009، حين دخل آخر أهرامات الشعر العربي ”سميح القاسم” مرفوقا بعدد من المعارف، فجلس معهم في زاوية من زوايا المكان. كان ذلك بمناسبة احتفالات مؤسسة ”البابطين” الشعرية، بذكرى تأسيسها العاشرة، بقيت مركّزا أنظاري باتجاه القاسم، ولعابي يسيل؛ فلا يمكنني كصحفي أن أفوّت فرصة محاورة شاعر بقامة هذا الرجل. بقيت هكذا من الساعة السابعة مساء إلى الساعة الحادية عشرة ليلا، لا يغيب الرجل عن نظري أترقّب قيامه في كل لحظة، إلى أن قام فعلا فاقتربت منه مسرعا: ”الأستاذ سميح القاسم؛ أنا الصحفي فلان من الجزائر ويشرّفني كثيرا أن أجري حوارا معك”، فردّ مازحا : ”ألا ترى يا صديقي بأن الساعة متأخرة جدا، كما أنني مرهق من السفر، بالكاد أقوى على أن أقول لك تصبح على خير”.. ”لكنني لا يمكن أن أغادر القاهرة قبل أن أجري الحوار معك، أنت فرصة لا تعوّض يا أستاذ سميح”.. ”طيّب ابحث عني غدا بين التاسعة والعاشرة صباحا في مطعم الفندق، ومع فطور الصباح يمكن أن ندردش قليلا”. استيقظت باكرا، حضّرت أسئلتي وآلتي التسجيل والتصوير، وفي الساعة التاسعة نزلت أبحث عن شاعري.. مطعم ”ماريوت” الزمالك كبير جدا، ولم يكن من السهل العثور على ”صيدي الثمين”، فسألت نادلا هناك، ودلّني إلى الطاولة التي يجلس عليها سميح القاسم في الحديقة. كان يوما جميلا، وكان يجلس وحده يطالع ”المصري اليوم” ويرتشف فنجان قهوة: ”صباح الخير أستاذ سميح، أنا الصحفي فلان من الجزائر، وعدتني أمس بدردشة وأتوسّم بأنك لن تخلف وعدك”.. ”سميح القاسم لا يخلف وعده يا رجل، اجلس وقل لي في البداية ماذا تشرب؟”. طلبت قهوة، ثم هممت بتشغيل آلة التسجيل، قبل أن يطلب مني القاسم إطفاءها: ”وعدتك بدردشة وليس حوار”.. ”أنا صحفي والدردشة بالنسبة لي لا يمكن أن تكون سوى حوار”.. ”بصراحة سئمت الكلام، أعتقد بأننا اليوم أحوج ما نكون إلى أن نصمت قليلا”.. ”هذا كلام مهم سيدي وأرجو أن يصل إلى قرائي”.. ”أعتقد بأنك تحاصرني، يا اللّه اسأل ولا تطل، أريد أن أتخلّص منك”. سألت سميح القاسم عن أوضاع الأمّة، عن الشرخ الفلسطيني، عن التطرّف، عن صمت النخب؛ وبمرارة المبدع اليائس انهال نقدا في الجميع، فوصف الدول العربية بـ«دويلات سايكس بيكو”، واتهم الغرب بأنه يريد من العرب أن يعلنوا إمارة على كل بترول، كما اختصر النخب العربية في ”مجرد قطيع من المرتزقة والمأجورين”. نشرت الحوار وأحدث ضجة كبيرة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، وتناولته الكثير من الصحف العربية. لكنني، وبعد أيام قليلة من النشر، تفاجأت بالزميل رشدي رضوان يكلّمني مساء ليخبرني بأن هجمات سميح القاسم موضوع نقاش على قناة ”حنبعل” التونسية، فسارعت إلى تشغيل القناة، وفعلا وجدت بأن عددا من الإعلاميين والمثقفين يفككون اتهامات الشاعر الفلسطيني للنخب العربية بالخيانة والاستسلام للمهانة. بعد لحظات أعلن منشط الحصة بأن التقنيين نجحوا في ربط الاتصال بالشاعر الكبير سميح القاسم.. لا أخفي بأن قلبي حينها سارع بالخفقان، فقد خشيت أن يتخلى عني شاعري، وأن يتّهمني بتزوير كلامه وتحريف أفكاره، وكم كانت سعادتي كبيرة وأنا أسمع ”الهرم الأخير” يؤكد ما جاء في الحوار بل ويزيد عليه. في حياة الصحفي علامات تنير دربه المهني، وفي دربي علامة اسمها ”حوار مع سميح القاسم”.محمد بغاليفي خضم ما تشهده فلسطين من مآسٍالأسرة الثقافية مصدومة لفقدان سميح القاسم تلقّت الأسرة الثقافية في العالم العربي خبر رحيل سميح القاسم بحسرة وألم شديدين، حيث اعتبر عديد الكتاب والشعراء والمثقفين، على العموم، رحيله بمثابة فجيعة كبيرة، تشبه فجيعة فقدان محمود درويش، خاصة مع ما يشهده العالم العربي وفلسطين بالأخص من مآسي ونكسات. ونعى عديد المثقفين الراحل على شبكات التواصل الاجتماعي ”الفايسبوك” و«تويتر”، حيث كتب الشاعر الفلسطيني عبد اللّه أبو بكر على الفايسبوك: ”رحل سميح القاسم.. رحل وطن شعري جديد.. أيها الوطن الفلسطيني.. كم ستخسر من رجالاتك وسماواتك”. فيما كتب الشاعر اللبناني الدكتور مصطفى قيصر: ”ارتحال الشاعر المقاوم سميح القاسم في مثل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها أمتنا العربية.. يجعلنا نذرف دما وعبرات على رحيل هذا الشاعر الرائد، ونرى أنه مات في خضم الحدث موت الشهيد”.الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ينعي سميح القاسم ”فقدت الأمة العربية شاعرًا من أهم شعرائها المعاصرين، هو الشاعر العربي الفلسطيني الكبير سميح القاسم، الذي جعل صوته الشعري صوتًا لقضيته الوطنية، فكانت قصائده ودواوينه رسائل حق لكل الشرفاء في العالم، تعرّفهم بالقضية الفلسطينية، وتضع أيديهم على جراح شعب عظيم، احتلت العصابات الصهيونية أرضه منذ مائة عام، تحت نظر القوي الكبرى، وبمباركتها. سميح القاسم واحد من نسل الشعراء العرب والفلسطينيين الكبار، وأيقونة من أيقونات الشعر العربي على مدار تاريخه، سوف تحفظه ذاكرة الشعر العربي دائمًا وأبدًا، لأنه وقف مع رفاقه من شعراء فلسطين. وحّد بين القصيدة والقضية، فجسّدها وارتفع بها وأعطاها صوتها، وصدّر للعالم إبداعها النقي الملهم الذي لا يموت، والذي هو الدليل على وجود ورفعة الشعب العربي الفلسطيني الحر، وأحقيته في أرضه وتاريخه ومقدّساته وأمجاده.الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة”اكتمال ثلاثية الغياب برحيل سميح القاسم” قال الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، في تصريح لبوابة الأسبوع: ”غيّب الموت شاعر المقاومة الكبير وزميل وقرين محمود درويش، وبغيابه تكتمل ثلاثية الغياب سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد، عاش سميح القاسم شاعراً ومناضلاً ومقاتلاً يرسم مع زملائه طريق الكفاح.. غياب سميح القاسم سيؤثّر على حركة الشعر الحديث، ليس في فلسطين فقط بل في العالم العربي كله.. كلنا نشعر بخسارة الشعر الفلسطيني والعربي بأكمله الآن لغياب سميح القاسم”.الشاعر تمام الكرديرحل صاحب ”غزة تبكينا لأنها فينا” يعدّ رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، خسارة كبيرة للشعر العربي وإبداعه، فسميح القاسم كان يمثّل حقبة نضالية بالحرف. وكان يمثّل جيلا تربى على شعارات توائم وتنبض جسدا وروحا الكلمة والرصاصة، هو التحدي في زمن الرحيل الصعب. الأسماء ترحل، ولا يمكن إجبارها على البقاء، لكنها تترك بصمتها الأقوى الكلمة والحرف والمعنى، فذلك السلاح الأكثر فاعلية. حين قتل الصهاينة المناضل على الكرسي المتحرك والطاعن في السن أحمد ياسين ما الذي كان يخيفهم منه سوى صوته وكلماته، حين لا قدرة له على حمل بندقية، فالبقاء للصوت الأعلى والكلمة الثابتة وليدة الحق.الرئيس الفلسطيني ينعي الشاعر سميح القاسم نعى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم. وقال عباس، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية ”وفا”: ”إن الشاعر القاسم، صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، والذي كرّس جلّ حياته مدافعا عن الحق والعدل والأرض”.وزير الثقافة الفلسطيني السابق يحيى يخلف”رحيل القاسم فجيعة بمثل رحيل درويش” كتب وزير الثقافة الفلسطيني السابق، يحيى يخلف، على صفحته على فايسبوك إن ”شاعر فلسطين وتاريخها ومقاومتها وكرامتها وعنفوانها وألقها، سميح القاسم، في وضع حرج بالمستشفى، فهو يعاني من مرض السرطان منذ ثلاث سنوات، وضعه حرج للغاية، الخبر صدمني، فجيعة أحسست بها يوم رحيل محمود درويش.. سميح ومحمود درويش كانا من مؤسّسي أدب المقاومة. محمود وسميح توأم مسيرة حافلة في النضال والإبداع والحياة. كل قصيدة أيقونة وجزء من أدبيات ثورة، ومظهر من مظاهر سيادة.جمعتها: ب. مسعودة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: