استعرت النيران هذه الأيام في غزة وفي ليبيا وفي العراق وفي مصر وسوريا بل حتى في تونس، بل وهي مرشحة للاستيعار ببلدان أخرى في المنطقة. طبعا ينبغي القول إن نيران غزة نيران ظلم واستعمار استيطاني حاقد عنصري ووضيع، ونيران صراع مرير للفلسطينيين مع الدولة الصهيونية، إضافة للانحياز الدولي السافر، وتخلي المجتمع الدولي عن قيم ميثاق الأمم المتحدة وعن قيم الإنسانية، خاصة العدل والإنصاف، وحتى قيم القانون والأخلاق ونصرة المظلوم. أما باقي نيران المنطقة فهي، وإن تم ترجيح وجود أيدٍ أجنبية فيها، إلا أنها من صنع أهلها ومواطنيها. إن العنف في ليبيا، وأحيانا في تونس ومصر والسودان، وفي سوريا والعراق واليمن، هو تعبير عن صراع ذاتي مدمر، وصراع يمنع حدوث أي تنمية ويمنع على الخصوص التحرر والديمقراطية. إنه صراع يوفر مناخات استمرار أنظمة التسلط، مهما كان الشعار الذي تبرر به تسلطها، الأمن أو الدين.لقد ظهرت المعادلة اليوم واضحة، هناك ثلاثة أطراف فاعلة، الأنظمة والخارج والشعوب، وظهر واضحا أن الخارج يخشى الشعوب، ولن يتحالف معها ضد الأنظمة التابعة تبعية مالية أو سياسية إستراتيجية، كما ظهر أيضا أن الشعوب يمكن أن تخسر معارك كثيرة قبل أن تفرض أنظمة المواطنة والحرية والديمقراطية.العنف اليوم تعبير عن تحالف جديد بين المصالح الداخلية والخارجية، وهو تحالف ضد الشعوب وتحالف قد يؤدي إلى تلاعبات جديدة بالجغرافية السياسية للمنطقة. والأمر لا يقتصر على بلدان المشرق فقط بل بلدان المغرب هي الأخرى معنية، بل حتى البلدان المتحالفة مع الولايات المتحدة والغرب لا يبدو أنها ستنجو من ترتيبات الجغرافية السياسية الجديدة!اليوم ينبغي القول إن العربدة الإسرائيلية لم تكن ممكنة إلا لأن العرب لا يزنون في ميزان المصالح وفي ميزان العلاقات الدولية شيئا كبيرا. نعم، لقد تدهور الثقل العربي تدهورا خطيرا، ولم تعد الأطراف الدولية تعير هذه المنطقة أهمية تذكر، فقد فقَد النفط أي دور استراتيجي، وفقدت الأنظمة، وفقدت النخب القدرة على المبادرة وعلى الفعل وعلى الاستقلالية. العرب اليوم مهددون في وجودهم، ومهددون في أمنهم، ومهددون في ما تبقى من ثقافتهم، العرب اليوم كمُّ فاسد غير نافع في أغلبه، أنظمته عاجزة عابثة تافهة تابعة، ونخبه عاطلة غائبة مغيبة قاصرة مفعول بها وفيها.إنه وضع وضيع، وضع محزن، وضع بائس يائس وهو، حتى اليوم، عقيم لم ينتج غير الهوان، غير المهانة، غير الدم، وهو صار يستحل دم العرب، سواء على يد بعض أبنائه، خدمة لأعدائه، أو بيد الاحتلال والمؤامرات المتعددة الأشكال.نعم الوضع عقيم، فقد فشلت محاولات التغيير كافة، وانتهت بشكل دائم متكرر ومريب إلى ثنائية غريبة، وكأن لا شيء غيرها ممكن، إما أنظمة استبدادية ترضي المصالح الخارجية وتقمع الشعوب، أو استبداد تحت رداء ديني جاهل أو مُدّعٍ وقاصر، يرفع شعارات زاهية مُلهية. اليوم القضية المركزية للعرب، أي القضية الفلسطينية، لم تعد القضية المركزية، لسبب بسيط، لقد ثبت بشكل أكيد أن القضية المركزية لكل العرب مازالت هي الحرية. نعم اليوم لم يعد حل الدولتين ممكنا ولا مرغوبا من قبل إسرائيل، لا إمكانية لوجود شعبين في دولتين، وليس مقبولا دولة لشعبين، ولا مكان على ما يبدو إلا لدولة واحدة لشعب واحد هو، حسب موازين القوة القائمة، اليهود. وذلك هو مسعى الصهيونية، وهو ما يسعى إليه نتنياهو واليمين الحاكم في إسرائيل.مسار أوسلو مات منذ زمن بعيد، والمسار الممكن الوحيد هو المقاومة، ولهذا رأينا كيف جن جنون الكيان الصهيوني لقرار استعادة وحدة الشعب الفلسطيني، وتأكد الجميع أن ذلك أهم قرار سياسي للفلسطينيين منذ زمن، وتأكد أن الزمن ليس زمن السلام، وعندما تطالب إسرائيل بتجريد المقاومة من سلاحها، ويجد المطلب صدى ودعما في الغرب بالخصوص، فمعنى ذلك أن الزمن زمن طلب الحرية بكل المعاني، أي التخلص من الاستعمار، في جميع أشكاله، والتخلص من الاستبداد، لأنهما وجهان لواقع واحد.لا يمكن المراهنة اليوم على المجتمع الدولي، لأن موازين القوة فيه لصالح إسرائيل، ولا يمكن المراهنة على الرأي العام الدولي لأنه، بالرغم من كل النوايا الحسنة، غير فاعل وخاصة غير حاسم، والرهان الوحيد هو على الشعوب وعلى نضالات التحرر، كل نضالات التحرر بجميع أشكالها وبجميع الوسائل الممكنة[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات