+ -

 يلاحظ سِمة غالبة في ذهنيتنا الدّينية والسّياسية، وهي أنّ بعضَهم حين يُحاول الخروج من مذهب فقهي إلى آخر لا لرخصة في ذلك المذهب تتلاءم مع ما يتطلبّه العصر وتغيّر الأحوال والمقام من تسهيل وسلاسة في العلاقات العامة ولكن من أجل التشدّد ورغبة في المزيد من الغلوّ، وقد كان بعض أئمتنا يردّدون عبارة الحديث “ما عرض عليّ أمران إلّا اخترتُ أيسرهما”.كان سفيان الثوري يقول: “الرّخْصة من فقيه أمّا التشدّد فيُحسنه كلّ أحد منّا”. بمعنى أنّ المجتهد الحقيقي هو الّذي يَبحث عن الرّخصة، أمّا إذا أراد أن يضيق على نفسه فله ذلك، وتلك درجة الوَرِعين وهي مسألة تتعلّق بحياته الشّخصية والفردية، قلت إنّنا نخرج من مذهب إلى آخر لأنّنا نُفضِّل فيه الغلْق والتشدّد، كالّذين يصرّون على سلفية وهابية كانت في الأصل اجتهادًا نهضويًا عربيًا وإسلاميًا في الحجاز والجزيرة العربية ثمّ انتهت عندنا بعض الأتباع إلى تكفير وسفْك للدّماء، أو كالّذين يحبّون أن يكون متشيّعين -ولهم حقّهم في ذلك- ولكن الغريب هو أنّهم لم يغيّروا شيئًا في تشيّعهم، أي أنّ آلية انتظار المهدي الغائب هي نفسها الآلية السّابقة المرتبطة مثلاً بالزّعيم أو الشّيخ الّذي يحلّ الأسرار أو بالأولياء وكراماتهم، وهذا المنْزع الخرافي يتزامن مع العودة إلى التّصوف في شكله الدروشي الخرافي وليس إلى جوهره الحقيقي.كما أنّني أستغرب لماذا نقفز مباشرة من سُنّية مالكية إلى سَلفية وهّابية أو إلى شيعية إمامية مُوغلة في التّشدّد في الرّأي دون أن نهتم بالزّيدية الّتي هي فرقة شيعية أقرب إلى السُّنّة وإلى ما كنّا عليه سابقًا، والشّوكاني والسّمعاني فقيهان زيديان وكتبهما استفاد منهما علماء الإصلاح والنّهضة من السنّيين ولم يجدوا ذلك حَرجًا بل كانوا يبحثون عمّا يقدّمون به إسلامًا يُسهِّل على النّاس حياتهم وتعقيداتها المعاصرة ويستجيب لقضايا ربّما لا نجد لها حلاً في فضاء فقهاء السُّنَّة، وأولئك كما المُتمسِّح بالإنجليين الخرافيين الجُدد المرتبطين باليمين الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية.لسنا مع الّذين يُحرّمون الخروج من المذهب إلى مذهب فتلك مسألة صارت قديمة، بل أصبح التّقليد ضررًا على الدّين وعلى التّطوّر الثّقافي ومُعيق للعلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولكن نفسية البحث عن التّشدّد والمُخالفة من أجل المنازعة والشّقاق ليست اجتهادًا وإضافة بل هي مرض ثقافي واجتماعي وجب علاجه.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات