تحولت الوقفة الترحمية التي تقام سنويا في ذكرى اغتيال الرئيس بوضياف، إلى وقفة غضب من مجاهدين تبدو على محياهم علامات التقدم الشديد في السن، قالوا إنهم ناضلوا من أجل استقلال الجزائر ثم وجدوا أنفسهم على الهامش.. غضب خالطته أصوات لمواطنين لم تيأس إلى الآن من المطالبة بمعرفة حقيقة اغتيال الرئيس الراحل.علا منسوب الغضب في صدور مجاهدين حضروا الوقفة الترحمية على الرئيس بوضياف في مقبرة العالية، وبدت شهية كل واحد فيهم مفتوحة على الآخر، ليروي جزءا من ملحمة في تاريخ الثورة كان قد اشترك فيها، أو يستذكر حدثا تاريخيا طمست معالمه بعد الاستقلال، أو يستعيد أمجاد شهيد أو رفيق سلاح صار إلى غياهب النسيان، خاصة أن الوقفة تزامنت مع رحيل حبة أخرى من عنقود مجموعة 22 المجاهد مشاطي. لكن أكثر ما يحزن المجاهدين وهم أقرب إلى آخرتهم من دنياهم كما ذكروا أنهم سيتركون البلد الذي حرروه في وضع غير الذي أملوا فيه بعد أكثر من خمسين سنة من الاستقلال.وكان الراحل محمد بوضياف في كل ذلك حلقة الوصل التي تجمع بين الحاضرين الذين بلغ عددهم المائة، فهو الأب الحقيقي لجبهة التحرير الوطني كما قالت لويزة إغيل أحريز، وهو عضو مجموعة 22 المنسي من قبل النظام وإعلامه، وهو الجامع بين الذين ضلوا أوفياء لخط الحكومة المؤقتة رافضين النظام الذي أسس له الرئيسان بن بلة وبومدين وما جاء بعدهما.أسماع الحاضرين على أطراف مربع الشهداء، كانت مشدودة إلى ما جاء في كلام المجاهد العربي حميدي المعروف باسمه الثوري “الكولونيل أعمر” في فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، إذ قال في مرافعة شدت إليها أسماع الحاضرين “أنا تلميذ بوضياف أحد عمالقة الثورة. هذا الرجل الحر الذي قال الجزائر قبل كل شيء”. ثم أضاف “لقد همش الرجال الحقيقيون وصناع الثورة للأسف”. قبل أن يسترسل في ذكر تفاصيل طويلة، كانت تقطعها الدموع من حين لآخر، عمن يعتبرهم صناع الثورة الحقيقيين.لم تكن وقفة أمس عادية، فقد جاءت بعد أيام من منع الشرطة “بأوامر فوقية” دخول المترحمين إلى مربع الشهداء حيث يرقد جثمان الرئيس المغتال إلى جانب “رفاق الكفاح” ممن وحدتهم الثورة وفرقهم الاستقلال.. هذا المنع جعل الحضور غفيرا في الوقفة الثانية التي أريد لها أن تكون عفوية يُدعى إليها عبر الجرائد ويقصدها من مازالوا على عهد بوضياف باقين، كما قال أزواو حمو الحاج رئيس جمعية ضحايا أكتوبر 1988 وعضو حركة بركات.بيد أن عناصر الشرطة التي كان عددها قليلا بالمقبرة، لم تقف هذه المرة في وجه زائري ضريح الرئيس المغتال، بل شرَّعت أبواب مربع الشهداء قبل الوقت المحدد للوقفة. وبدأ تقاطر الشخصيات الحاضرة إلى الداخل على الساعة 11، مثل علي هارون عضو المجلس الأعلى للدولة سابقا، ومحمد الصغير باباس رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب لويزة إغيل أحيز المجاهدة المعروفة، والجنرال المتقاعد محمد تواتي، وجمع واسع من المجاهدين خاصة من أعضاء في فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، ومن عائلة الراحل حضر عيسى بوضياف الذي كان رفقة علال الثعالبي أحد رفقاء بوضياف في السلاح.وظهر علي هارون منزعجا من أخبار تُتداول عن أن رفاق بوضياف لم يعودوا يستعيدون ذكرى وفاته. “لم نحضر إلى العالية في يوم 29 جوان (يقصد اليوم المصادف لاغتياله) لأن أصدقاءه في الثورة تعاهدوا على اللقاء في كل يوم جمعة يلي تاريخ اغتياله، حتى نستقطب أكبر عدد ممكن”. لكن علي هارون الذي أسقط النسيان عن أصدقاء الراحل لم يتردد في إثباته على النظام حينما قال “حقيقة السلطة نسيته ولم يعد أحد يتكلم عنه”. هنا انطلق صوت لشخص كان يستمع بأناة لحديث هارون قائلا “نسيته المصالحة ! “.. نسيان رُفعت شكواه إلى “أرواح مليون ونصف المليون من الشهداء الأبرار” كما جاء في كلمة أحد المجاهدين الذين ارتجل كلمة بالمناسبة أمام الحاضرين بعد أن وضعت باقات الورد على قبر الرئيس الراحل.عند انتهاء هذه المراسم المعتادة، أطلق مواطنون حاضرون لا يعرف لهم توجه سياسي أو انتماء حزبي، كتقليد أصبح معتادا في كل ذكرى لاغتيال بوضياف، صيحات على شاكلة “نريد معرفة الحقيقة”. “من قتل بوضياف؟”. “لقد بعتو البلاد” في وجه الحاضرين من الوجوه المعروفة، غير أن تلك الصيحات قد تكون أخطأت الهدف لأن لا أحد من الرسميين كان حاضرا في المقبرة، حتى من أولئك المحسوبين على تنظيمات الأسرة الثورية. كما لم يُشاهد الجنرال خالد نزار الذي حضر الذكرى في سنوات سابقة وكانت تلاحقه نفس الصيحات.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات