فارس القرطاس والقلم الذي لم ينل منه المرض

+ -

 الزمن يمضي لا يلوي على أحد، إما أن تُخضعه لأهدافك فتمسك بسر الحياة أو يتجاوزك لضعف أحلامك ونقص أعمالك، فتؤول حياتك كلها إلى التلاشي والفناء. عليك أن تدرك أن الحركة أهم من السكون، لأن الحركة تعني الوجود، والسكون يعني العدم. الأمر ذاته ينطبق على الصحة، إما أن تحسن استغلالها فيما ينفعك وينفع غيرك فتعيش أسمى معاني الحياة، أو تقعد عاجزا عن الفعل والمبادرة حتى تفقدها وتضيع منك، فتستحيل حياتك كلها ألما وعذابا. هاتان النعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس. تأمل النعم التي بين يديك، ما أكثرها، لا تغفل عنها كي لا تعيش العمر كله نادما على إضاعتها.يعلم الله ما يحس به أستاذنا شريبط أحمد شريبط من ألم ومشقة بسبب فقدان هذه النعم، بعد أن قيَّده المرض عن الحركة. فهو يعاني من فشل كلوي حاد يضطره للقيام بالتصفية ثلاث مرات في الأسبوع منذ فترة طويلة (منذ يوم 26 جانفي 2000)، حتى يستعيد جسمه النشاط ويحافظ على باقي أجهزته الأخرى، وهذا ما يتطلب منه الذهاب إلى مراكز غسيل الكلى باستمرار والبقاء بضع ساعات للقيام بتصفية الدم، ويكون له موعد مع الحياة، وهو أمر يتعبه كثيرا خصوصا مع تقدمه في السن. عاش الرجل مع المرض وآلامه ومتاعبه ونوباته المتتالية سنوات طويلة، حتى لما كان يجلس معنا في الأيام التي من المفروض أن يكون مرتاحاً فيها، والتي تأتي بعد يوم التصفية الذي ينازع فيه الموت، تراه بين الحين والآخر يتغير حاله فجأة. فبعد أن يتكلم بحماس أو يستمع باهتمام، ينقلب حاله وينكمش جسمه ويتلوى من شدة الآلام الجانبية غير المتوقعة. فكنا نتألم لألمه ونحاول أن نخفف عنه، لكن أنى لنا ذلك والله وحده هو الشافي الكافي.عرفت الرجل في نهاية التسعينيات، ثم توطدت علاقتي به في السنوات الأخيرة؛ في البداية كنت ألتقي به على هامش النشاطات الثقافية، وبعد أن أتعبه المرض بدأت أتصل به هاتفيا كي أسأل عنه وأطمئن عن حالته الصحية، ثم زرته في بيته عدة مرات، أول شيء فعله هو أنه عرّفني على عالمه المعرفي الثري للغاية وجنته الثقافية التي ينهل منها دون كلل أو ملل، مما فيه غذاء للعقل وشفاء للروح. المكان الذي عرّفه بنفسه أولاً، وجعله يستمتع بلذة اكتشاف العالم الذي من حوله ثانياً، ويتذوق نشوة فهمه (أي العالم المحيط به) عبر نهر من الأسئلة يسبح فيه فكره وعقله. وأنا أدخل إلى مكتبته الخاصة أحسست بالاحترام وشعرت بالرهبة، لأنني وجدت نفسي في مواجهة عالم ثري للغاية من الكتب والأسفار. عندما نظرت إلى الكتب المتراكمة على رفوف المكتبة أو فوق المكتب أو في بعض الزوايا، سألت نفسي عن سيرتها وتاريخها وحكاية كل كتاب منها. نظرت مجددا إلى كل تلك الكتب الكثيرة، ثم نظرت مرة أخرى إلى صاحبها وتساءلت عن طقوسه في القراءة وعن الكلمات والجمل التي خطها قلمه، وكنت في لحظات أحاول أن أتخيل صاحبها، وكيف يكتب ومتى يأتيه وحي القلم، وبماذا يشعر حينها؟كنا نتطرق للكثير من المواضيع في نقاشاتنا في المقاهي المغلقة أو تلك التي تطل على البحر، كانت الأفكار المطروحة والرؤى والتصورات المتبادلة في أحاديثنا المتعددة تختلط مع زرقة البحر ونسمته التي تلفحنا بين الحين والآخر، كان الوقت يمضي بسرعة، لم نكن نشعر به حتى يخيم علينا ظلام الليل. في إحدى المرات لم نجد طاولة مناسبة تقابل البحر ومتاحة للجلوس، فأذِن لنا شيخ بالجلوس معه لأنه بصدد المغادرة، خضنا في مواضيع كثيرة مرتبطة بالثقافة وتجاربنا في أسفارنا؛ ودور ابن باديس في الثورة، وقيمة الطاهر جاووت في الساحة الثقافية الجزائرية، وقصة الطاهر وطار والأديبة زليخة السعودي، والأدب والأيدولوجيا، والسلطة والمثقف، والمدينة والمثقف، وحضارة بلاد الشام وما تعيشه اليوم من نكوص وردة، وغيرها من المواضيع، كان ذاك الشيخ منسجما ومتناغما مع النقاش إلى درجة الانغماس، فكان يسمعنا وينصت لحديثنا باستمتاع ظاهر، في هدوء وسكينة كأن على رأسه الطير، فلم يغادر إلا بعد ساعات من جلوسنا معربا عن سعادته الكبيرة بمستوى ما كان يدور في نقاشنا. الحديث مع الأستاذ أحمد لا يُمل حقيقة، فهو هادئ ومتحدث بارع وله باع طويل في الحياة الثقافية وزاد معرفي كبير، ما يجعل المستمع يتوغل في عوالمه العميقة برفق، ويحاول أن ينهل من معينه قدر المستطاع كأنه في منجم ذهب.كما أتذكر مرة زرته في بيته في شهر رمضان الماضي (2014) فأعطاني نسخة من آخر مقال كتبه بيده حينها، كان وقع المفاجأة عليّ كبيرا، خصوصا أن الرجل مريض كما سبق، ولا يقوى على الحركة وعلى أعباء الكتابة ومشقتها جراء الآلام التي كانت تلازمه. حينها أيقنت أن المرض لم ينجح في إسكات قلمه أبدا، حتى لو نجح بشكل كبير في تقييد حركته. فقد ظل المرض عاجزا عن حجب ما في صدره، وفشل في كف الرجل عن ترداد ما يؤمن به عن الحياة والعالم من حوله، لأن المرض الجبان لم يستطع النيل منه ومن أحلامه وأفكاره الحرة.المقال كتبه على وقع نبأ وفاة الإعلامي والمثقف الأديب بلقاسم بن عبد الله، فقد تألم بشدة وتأثر كثيرا عند سماع الخبر لدرجة الصدمة، خصوصا أنه أجرى في ذلك اليوم حصة من حصص تصفية الدم. لأن المتوفى رحمة الله عليه صديق عزيز ومثقف كبير، عرفه منذ عقود طويلة، التقى به عام 1982م بمدينة وهران؛ وقد عرّفه آنذاك على المثقف والناقد الشاب القارئ النهم والمهوس بالقراءة النقدية الجديدة بختي بن عودة رحمة الله عليه الذي وقع قتيلا برصاص الإرهاب عام 1995. وكان عنوان ذلك المقال ”واه.. عندما يكون الموت طريقا للحياة”؛ وكلمة واه تعني نعم بلهجة الغرب الجزائري.لقد فشل المرض في شل حركته وإضعاف عزيمته ومن ثم سَحْبه إلى عالم الموتى، فيما نجح فكره وقلمه في إعادة بعثه باستمرار من رماد المرض وكل ما يرتبط به من مآسٍ، وسحبه نحو عالم الحياة الأرحب النابض بالحب والجمال. لقد شق طريقه إلى الحياة في أوطان يقال إنه يموت فيها الشرفاء وهم أحياء، بينما يحيى الجبناء وهم أموات.    باحث وأستاذ جامعي من الجزائر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات