أصبح معروفا لدى العام والخاص أن الجزائر تستورد 60 مليار دولار، وتصدّر مليارا واحدا لا غير، وأنها تستهلك 18 دولارا ولا تنتج إلا دولارا واحدا، والسبب هو ثقل الآلة الإنتاجية إن لم نقل بأنها تكاد تكون متوقفة.هناك بطبيعة الحال أسباب عديدة لضعف آلتنا الإنتاجية، أهمها هو أن المؤسسة الاقتصادية المصنّعة والمنتجة والخدمية ليست على الإطلاق من اهتمامات الدولة، وقد نتج عن عدم الاهتمام هذا ظواهر غريبة مسّت بشكل خاص شبكة القوانين وأداء الإدارة والنظامين المالي والجبائي، أي مناخ الاستثمار بشكل عام.وفي السياق نفسه، يجب أن تعلم أجهزة الدولة السياسية والتنفيذية والأمنية أن معضلة الآلة الإنتاجية الوطنية تمسّ بشكل مباشر استقرار المجتمع وتوازن المؤسسات وبالتالي تماسك الدولة، لماذا؟تشير الأرقام إلى تخرّج 100 ألف طالب سنويا يحتاجون إلى مناصب عمل فورية، كما تشير الأرقام إلى تسرّب سنوي لحوالي 300 ألف تلميذ من المنظومة التربوية، بالكاد يمتص التكوين المهني 30 بالمائة منهم، كما أنه لا يضمن لهم فرصة عمل رغم التكوين الذي حصلوا عليه، لنجد بعد ذلك أن السوق الموازية توظّف حوالي مليوني شخص، غالبيتهم من دون تأمين ولا تقاعد، كما تشكّل هذه السوق نصف النشاط الاقتصادي الوطني، أي كمثل جسم إنسان نصفه خلايا سرطانية مميتة.هنا قد يطرح الكثيرون السؤال التالي: أين يعمل الجزائريون؟ والجواب هو أن معظمهم يمتصه القطاع العام بكل مكوناته، التربية والتعليم والإدارة والأمن والصحة، فيما تتوزع البقية على مؤسسات منتجة وخدمية تابعة للقطاعين العام والخاص، بالكاد تشكّل 30 في المائة من سوق العمل.نعم، تبذل الدولة جهودا إدارية ومالية وتكوينية كبيرة، لكنها كمثل فريق كرة قدم يلعب بشكل ممتاز قرب حارس مرماه، غير أن مهاجميه يسجلون ضد حارسهم وليس حارس الفريق المنافس. لكن كيف تفعل الدولة الجزائرية هذا؟لقد أثبتت الدولة، منذ أزيد من 10 أعوام، أن الاستقرار هو هدفها وقد سعت بالفعل إلى هذا الاستقرار لكن بأساليب مغلوطة، من بينها ما يحدث في قطاع البناء، أي عندما يبني لنا غيرنا ولا تشترك المؤسسات الجزائرية في عمليات الإنجاز. وقد نتفق أو لا نتفق حول مسألة جاهزية شركات البناء الجزائرية، لكن على الدولة أن تمنح الفرصة للشركات الوطنية، وتتضمن هذه الفرصة المال والوقت، وهامشا معقولا لقبول تصحيح هذه المؤسسات الوطنية لأخطائها وحصولها على الخبرة.يحدث هذا في الكثير من القطاعات المنتجة بشكل متفاوت، وهناك القليل من القطاعات التي سلمت من مثل هذه المعاملات، أبرزها الفلاحة والصيد البحري اللذان يعانيان مع ذلك من نقائص إنتاجية تحتاج إلى تدخل وإصلاح عاجلين.وبالجملة، تعاني الجزائر من حالة اقتصادية وإنتاجية مَرضية، أعتبرها شخصيا مصطنعة وغير طبيعية، بل ويمكن علاجها الآن وقبل فوات الأوان، لماذا؟ لأن الإدارة الجزائرية قوية جدا، لكنها غير سلسة على الإطلاق، ولأن الجزائر تمتلك الخبراء اللازمين لإحداث تغيير نوعي في النظامين البنكي والجبائي والجمركي.وليسمح لي القارئ الكريم بأن أعرض مشكل الاستثمار وحلّه على الشكل التالي:-حلّ مشكلة العقار بيد الدولة الجزائرية، فهي يمكنها بجرّة قلم تطهير المناطق الصناعية الميتة وتسليم عقاراتها إلى من يستحقها، أو إنشاء مناطق صناعية جديدة، وهو ما يحدث الآن ولكن سرعة تسليم قطع الأراضي للمستثمرين تختلف من ولاية وأخرى.-تسليم سلطة تسيير المناطق الصناعية ومنح قطعها إلى من يمكنه ذلك في القطاعين العام والخاص، فقد تتمكّن ولاية من تسيير كل مناطقها الصناعية أو بعضها، فيما تعجز أخرى عن ذلك، فيفسح المجال للقطاع الخاص كي يستثمر في هذا المجال.-ربط تراخيص الاستثمار من خلال مكتب ولائي موحد، يضمّ وزارات الداخلية والبيئة والصناعة والطاقة والفلاحة والسياحة والنقل والمالية والتجارة والمؤسسات المتوسطة والصغيرة، لأن الاستثمارات إنما هي في هذه المجالات ولا داعي لإقحام أجهزة الدولة الأخرى فيما لا يعنيها بل يعطّل عملها ويضيع وقتها.-يجب ربط هذه المؤسسات بشبكة عنكبوتية يتم من خلالها تبادل المعلومات وتحيينها، بل ويمكن أن يكون الشباك الولائي الجهة الوحيدة التي يتصل بها المستثمر، ويتعامل معها بشكل مباشر. وعلى هذا الأساس ينبغي أن تضع الدولة ثقتها في إطاراتها المحلية وتمنحهم حق تسيير الاستثمار وإصدار التراخيص اللازمة، أي أن الأمر هنا يتعلق بلامركزية ضرورية وحيوية تحتاج إليها الجزائر في الوقت الحالي، بسبب مساحتها الشاسعة وزيادة عدد سكانها وتضخم حاجاتهم واحتياجاتهم.-النظر الدقيق في قرارات النظام الجبائي التي تتخذها وزارة المالية، وتواصل الحكومة معها بشكل يجعل من المنتج الجزائري أرخص من المنتج المستورد. فمن غير المعقول أن تقبل الحكومة الجزائرية بنظام جبائي يفرض رسوما على المواد الأولية ويعفي في المقابل المنتجات المستوردة كاملة التصنيع، مثلما هو جار في القطاعات الدوائية والبناء والصناعات النسيجية.-ونظر دقيق آخر في الرسوم المفروضة على القطاع المنتج بأنواعه الصناعية والزراعية والخدمية ومن بينه السياحة، لأن نسبة الضرائب المباشرة المفروضة حاليا منفرة للاستثمارين الوطني والدولي، فهي تشمل أرباح الشركة والمساهمين وضريبة الدخل العام، بالإضافة إلى قيمة الضريبة المضافة. والجزائر من بين أسوأ ثلاثين دولة في العالم في هذا المجال.هل يمكن إحداث إصلاح ضريبي يخدم الإنتاج؟ الجواب هو نعم، لأن المساهمة الضريبية الحالية للقطاع المنتج لا تتعدى 5 في المائة من الناتج المحلي الخام، وتوسع القطاع المنتج سيزيد من هذه النسبة وتخفيض الضرائب المباشرة على المؤسسات، بالإضافة إلى أفضل شروط استثمار من شأنه تشجيع الجزائريين وغيرهم على الاستثمار في الجزائر.ما هي النسبة التي يمكنها أن تكون مفيدة للاستثمار وسوق العمل؟ يعتقد الكثير من المحللين الاقتصاديين الجزائريين أن نسبة 15 في المائة ضرائب مباشرة على المؤسسات المنتجة سيجعل الجزائر في مقدمة الدول المتوسطية جلبا للاستثمار. ويجب أن يتزامن هذا مع نظام بنكي مرن يضمن حركة سلسلة لرؤوس الأموال وللتمويل بكل أنواعه وحركية أرباح المستثمرين، مع التزام الجميع بالقانون، وليس ما يحدث الآن من فرض أسلوب القرض المستندي كشكل وحيد لشراء الخدمات والسلع، وهو شكل يبذّر المال ويضيع الوقت، وبالتالي التأثير السلبي على سوق العمل.كل هذا بيد الحكومة وبيد رئيس الحكومة عبد المالك سلال شخصيا، فهو يعرف أن ما سبق ذكره من إصلاحات ممكن الحدوث بقرار منه، وهو يعلم أيضا أن الدولة بإمكانها ربط التربية والتعليم والجامعة والتكوين المهني والمؤسسات الصناعية والزراعية والخدمية بعضها ببعض، بشكل يخدم الإنتاج ويحارب البطالة ويضمن استقرار الدولة الجزائرية بعد أربعة أعوام، عندما يدخل اتفاق التفكيك الجمركي مع الاتحاد الأوروبي حيز التطبيق، وتصبح الدجاجة الفرنسية والبطاطا الألمانية والمقرونة الإيطالية أرخص من نظيرتها الجزائرية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات