يسمّونها “الامتحانات الرسمية” ويصفونها بالمصيرية، ويحيطونها بهالة من الاهتمام بل الهمّ، تؤدي إلى الخوف بل الرعب، وإلى القلق بل التوتر، وربما حتى الانهيار العصبي.هي امتحانات تتوّج نهاية كل مرحلة من مراحل التعليم الثلاث، ويعتبر أخطرها وأكثرها تأثيرا امتحان “البكالوريا”؛ امتحان يصيب بالهوس ويؤدي إلى التخريف على مستوى الفرد (المترشح) والأسرة والمجتمع والدولة!يحكى أن أمّا ذهبت بابنتها المترشحة لامتحان البكالوريا إلى عرافة، قالت الأم: “شوفي بنتي تدي الباك ولا ما تديش؟” فقالت العرافة: “تديه وتجيب معاه 2 أولاد”!!وحدث أن أولياء التلاميذ عبّروا غاضبين عن رفضهم امتحان أبنائهم في البكالوريا وفق منطق المقاربة بالكفاءات!! فما كان من الوزير إلا أن أعلن أن “اطمئنوا البكالوريا لن تكون وفق المقاربة بالكفاءات”!!ثم حدث مرة أن ابتدعت بدعة خطيرة وغريبة اسمها “العتبة”. وقد كانت بدعة، ومضت سنة، وصارت مكسبا وحقا لا يمكن المساس به، ومن يحب أنّ (العتبة تتنحى، هو اللّي يتنحى)!!الخوف والقلق والهوس وغيرها من المشاعر السلبية الملازمة لهذا الامتحان “المصيري” أدت أيضا إلى قلب المنظومة القيمية لمجتمعنا؛ حتى أصبح الغش “قفازة وشطارة”، وأضحت كل وسيلة لذلك مقبولة ومطلوبة ما دامت تؤدي للغاية المنشودة (النجاح في هذا الامتحان).. وباتت الوسيلة (وسيلة الغش) مركز اهتمام التجار والمستوردين، وأصحاب المكتبات وقاعات الأنترنت.. وحتى بعض الأساتذة هداهم اللّه الذين تحوّلوا إلى “كهنة” يتكهنون مواضيع الاختبارات ويوصون بها المترشحين، الذين بدورهم لا يتورعون في إعداد أجوبتها وكتابتها باستعمال وسائط تطور كل سنة، بدءا من الأشرطة الشفافة التي ترى بمنظار خاص، إلى الأقلام السحرية إلى البلوتوث، إلى غيرها مما لا نعلم كثيره.وأخطر ما في قلب المنظومة القيمية للمجتمع، هو عندما يتحالف في ذلك السلوك المافيوي لبعض التجار والباعة والتلاميذ، مع السلوك غير السوي لبعض المسؤولين على التربية في بعض المناطق، الذين بحجة الخوف على مناصبهم عندما يحاسبون على نتائج الامتحانات يلجأون إلى تسويق التساهل وغضّ الطرف عن الغش وأسباب الغش، بل إن بعضهم ليصل إلى جعل الغش أمرا منظّما ومدبرا بليل، حتى يصبح “جريمة منظمة” يصعب حل خيوطها!!حري بنا، كمجتمع يبغي النهوض، أن نتساءل: ماذا جنينا من التهويل الكبير والاهتمام المبالغ فيه بما يسمى “الامتحانات الرسمية”؟! ماذا جنينا أكثر من “وجع الرأس” الممتد من بداية السنة إلى نهايتها، على مستوى الفرد والأسرة والدولة؟! الكل مشغول ومهتم ومهموم، ثم في النهاية مستوى التحصيل العلمي عبارة عن “دالة متناقصة تماما”، تدل على ذلك كل المؤشرات، ومثالها الحجم الساعي للدراسة في السنة الذي يكاد يكون أضعف حجم ساعي في العالم، خصوصا في مرحلة التعليم الثانوي أين تبدأ الدراسة فعليا في أكتوبر وتنتهي أواخر أفريل، وبينهما ما بينهما من مناسبات وإضرابات وغيرها!!ماذا جنينا أكثر من تشجيعنا للأقسام الموازية (على غرار السوق الموازية) التي أصبحت تثقل كاهل الأولياء بمصاريفها الكبيرة، وتثقل كاهل المنظومة التربوية بتقصير المنصرفين إليها من الأساتذة في عملهم الرسمي (إلا من شذّ والشاذ يحفظ لا يقاس عليه)؟! إذ إن الذي يشتغل في نهاية الأسبوع من الثامنة صباحا إلى العاشرة ليلا، وفي أيام أخرى من السادسة مساء إلى الحادية عشرة ليلا! لا يمكن بحال أن يَجِدَّ في عمله ويتقنه، ببساطة لأنه يصرف كل قواه!!المنظومة التربوية تعاني أيضا من حيث نوعية التعليم المقدّم؛ فبدل أن ينصبّ الجهد على بناء منهجية التفكير، التفكير العملي والإبداعي، أصبح يُكتفى بتلقين مجرد معلومات يحفظها التلميذ ليجيب بها في الامتحان بطريقة الاسترجاع الببغائي الساذج، ثم سرعان ما ينساها.. ولذلك يتجه التدريس في الأقسام الرسمية والموازية (وخاصة الأخيرة) نحو تحفيظ كمّ كبير من حلول التمارين للتلاميذ، بحيث لابد أن تكون أسئلة الامتحان من هذا الكم المحفوظ؛ يحفظ التلميذ في الرياضيات حل الدالة اللوغاريتمية أو الأسّية، ويحفظ في اللغات ترجمات كتاب معيّنين ومواضيع معينة تكهّن بها الكهنة، ويحفظ في التاريخ موضوعين أو ثلاثا، وحتى في الفلسفة يحفظ التلميذ بعض المقالات في المواضيع المتكهن بها، ليكتبها كما هي في الامتحان، حتى إنه في العام الماضي كان مما احتج به التلاميذ المعبّرون عن رفضهم لاختبار الفلسفة، قول بعضهم (لقد حفظت عدة مقالات وما طاح لي حتى واحد فيهم!!). يجب أن نقرر أننا أمام مشكلة منهجية خطيرة أفرزت مشكلات أخلاقية ونفسية واجتماعية وثقافية.. هذه المشكلة المنهجية يمكن أن نلخّصها في “الاهتمام المفرط المبالغ فيه بالامتحانات” مقابل ضعف الاهتمام بالبناء المتمثل في العملية التعليمية. ولكي أقرّب الفهم أكثر أضرب هذا المثال: لو أن مزارعا زرع أرضه قمحا، لكنه لم يعط عملية الزرع الأهمية اللازمة من تهيئة للأرض عن طريق الحرث المتعدد وتنقيتها من الشوائب، وانتقاء البذور ومعالجتها، وزراعتها بالكثافة المناسبة والعمق المناسب، وتعهّدها بالحراسة من الطيور ثم الماشية وغيرها من العمليات الهامة.. لو أن هذا المزارع لم يفعل ذلك بل ألقى البذور في الأرض من دون اهتمام ورعاية، وراح من يومه الأول يولي كل الاهتمام لعملية الحصاد التي ستكون بعد شهور؛ حيث قام بتنظيف آلة الحصاد وتشحيم أجزائها، وحدّ سكاكينها وتصليح محركها وتجريبه كل يوم.. ثم جاء موسم الحصاد وهو على تلك الحال من الاهتمام والترقّب، فباشر الحصاد بكل حزم وعزم، ماذا سيحصد؟! هل سيحصد أكثر من منتوج هزيل قد لا يسمن ولا يغني من جوع؟!هذا هو حالنا تقريبا مع تفريطنا وعدم اهتمامنا بالعملية التعليمية، عملية البناء، ومبالغتنا في الاهتمام بما يسمى “الامتحانات الرسمية” التي جعلنا منها غولا يتحكم في مصائر أبنائنا، يفرز لنا كل سنة سلبيات كثيرة وخطيرة، وجب أن ننتفض الآن- كمربين وكآباء وكمسؤولين وكمجتمع- لنضع حدا لها، حتى ينشأ أبناؤنا في كنف العلم الصافي النافع، الذي يفتح أمامهم الآفاق ويتجاوز بهم الحدود، فيأملوا في أنفسهم ونأمل فيهم أن يكون منهم العلماء والعظماء والزعماء والقادة.. الذين يخرجون بلدهم وأمّتهم من دائرة التخلف الذي تعيش فيه، بدل أن يكون أقصى آمالهم وآمالنا فيهم هو أن يكونوا أرقاما إضافية في عالم الحاصلين على “الشهائد” التي تمكنهم من أن يعملوا موظفين بائسين يُمضون الأوقات، ويترقبون الأجور والعلاوات، ثم التقاعد والمعاشات.. حتى إذا مات الواحد منهم قيل “مات والسلام”[email protected]مفتش التربية والتعليم– سطيف
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات