كتب المرحوم محمود أمين العالم سنة 1987 ”ولا أتردد في أن أقول بصراحة واجبة: إن بعض الكتابات وبعض المداخلات في الندوات التي تنظمها السلطة ما كانت موضوعي، وتنتهي إلى تحديد معالم الخروج من محنة هذه الأوضاع العربية، بقدر ما كانت تُغيب حقائق وآليات هذه المحنة كما كانت تُغيب هذا المنهج الموضوعي لمعالجتها، وبالتالي كادت تكرسها تكريسا، وليس هذا بالأمر الغريب أو الشاذ، فالثقافة بعد من أبعاد هذه المحنة نفسها، وبعض المثقفين أنفسهم هم بعض أجهزة إعادة إنتاج مقومات هذه الإشكالية، ذلك لأن الثقافة بعد من أبعاد السلطة، كل السلطة، ولهذا فإن القبول بالثنائية الضدية الاستبعادية أو الثنائية التوفيقية بين المثقفين والسلطة لا يُفضي إلى تغييب حقيقة العلاقة بين المثقفين والسلطة فحسب، بل يفضي كذلك إلى طمس الثقافة وطبيعة السلطة على السواء، فلا سلطة دون ثقافة لأن السلطة نوع من الثقافة السياسية، ولا ثقافة بغير سلطة، أي أن الثقافة تنسب دائما إلى سلطة ما، سائدة أو سلطة أخرى تسعى لأن تسود!”ولعل هذه التحليل الجدلي الذي يربط مع آخر المطاف المثقف بالسلطة والسلطة بالمثقف ويجعل المثقف في كثير من الحالات شريكا أساسيا يعمل لفائدة السلطة واعيا كان أو غير واع. لكن الفكرة العامة التي يقدمها محمود أمين العالم صحية وتحمل في طياتها نوعا من الاستفزاز الإيجابي يخلخل الجاهز ويضرب في صميم الجبن المزروع في ضمير المثقف العربي، خاصة ذلك الذي يضع رجلا هنا ورجلا هنالك لأنه ليس هناك أحد يتصف بالبراءة.في هذه الإشكالية الحساسة، وهكذا نشاهد على المستوى الجزائري الشراكة الموضوعية المتواجدة والسارية المفعول في وسط الصحافة والنشر والفن بصفة عامة، حيث يعمل البعض على توطيد السلطة وضرب المثقف ”السليم”.وما يكشف أكثر فأكثر عن التباسات المثقف الجزائري (أو شبه المثقف؟) الذي يحتكر دور قاضي محاكم التفتيش من خلال ما يكتبه في الصحافة وما ينتجه أحيانا في الإبداع، خاصة وقد وجد هذا المثقف الرديء في وسائل الشبكات الاجتماعية وسيلة جبانة لأنه يستعمل فيها أسماء مستعارة ولغة خبيثة وألفاظا هزيلة، وهكذا يصبح هذا الشبه المثقف يحرس السلطة واعيا أو غير واع، فيلعب دور ”الكلب العساس” كما سماه بول نيزان الكاتب الفرنسي في الخمسينيات.فالسلطة تمول هؤلاء الناس بالمال وتمول مديري هذه الجرائد، وتسمي أقزامها في مناصب ودور الإبداع من مسرح وقاعات السينما ومؤسسات أخرى لها ميزانيات ضخمة تبذرها كما أرادت وفي صالح من أرادت، وخاصة في صالح نفسها أولا وقبل كل شيء، وذلك لأنه غاب سلم القيم وغابت المعايير والمقاييس الموضوعية وأطلقت النرجسية عنانها واختلط الحابل بالنابل، فأصبحت الرداءة العامة تطفو على سطح الأمور والأشياء وتنصب نفسها كعبقرية تكاد أن تكون إلهية.. أو فدة.ومن بين أساليب التشويق و ”التمهبيل”، فرضت هذه الفئة (الصغيرة في الحقيقة) خرافة التشبيب بما تحمله هذه الكلمة من شحنة مضادة بالنسبة لكلمة ”التشبيب” التي أصبحت عارا كبيرا وحراما أكبر، فخرافة قتل الأب كذلك.وإن كان هذا التطاحن وهذه الصراعات صحية في آخر المطاف، كما قال محمود العالم، غير أن المقولة الشعبية ”بات مع الجران صبح يقرقر” يعكس جيدا هذا الوضع الجزائري المتشعب والمتعفن.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات