هناك مثل يردده الكثير مفاده أن التدبير يثمر اليسير والتبذير يبدد الكثير، وبالكاد هذه المقولة يمكن أن تختزل الكثير بدل الإطناب والبحث الحثيث عن المفاهيم والصيغ الاقتصادية المعقدة، لإدراك جوهر المشكل الذي تعاني منه بلادنا، والذي لا يخرج عن نطاق الرداءة في التسيير وتدبير المال العام، فالجزائر التي أنفقت قرابة 800 مليار دولار خلال حوالي عقدين، لم تنجح في الخروج من دائرة استغلال وتوظيف وتوزيع الريع النفطي. وما زاد الطين بلة هو الفساد المنتشر والذي أضحى يأخذ طابعا مؤسساتيا ومنظما، أضحت نتائجه كارثية، إذ لم ينفع ضخ ما معدله 50 مليار دولار سنويا في أن نهيئ طرقا بمقاييس دولية أو نبني مستشفيات عصرية أو نربي أجيالا في مدارس نموذجية ومثالية، فما الذي قمنا به في الواقع بما قيمته أكثر من القيمة الحالية لمشروع مارشال مضاعف في ثمانية، أن المشكل الأساسي لدى القائمين على تسيير هذه البلاد أنهم يعتقدون بأن الحقيقة منحصرة عندهم وأن العنصر الرئيسي في التغيير يكمن في التراكم المادي بفضل توفير الموارد المالية الناتجة عن الثروة الباطنية، بينما بينت تجربة الكثير من الدول أن فقدانها للثروات لم يمنعها من تحقيق تراكم مادي وتطور اقتصادي، ثم إقلاع تكنولوجي، وهي تفتقر لأدنى الثروات الباطنية، ومثال ذلك اليابان وألمانيا، فكوريا وماليزيا أفضل دليل على ذلك، بل إن دولة الأردن في المنطقة العربية بينت بما لا يدع مجالا للشك أن الغنى ليس في المال الناتج عن الثروة الطبيعية، بل في كيفية توظيف المتاح من الموارد، مادية كانت أو بشرية، لتحقيق الأهداف المسطرة بفضل تخطيط محكم ورشيد، وهو ما نفتقده تماما في ظل سيادة إرادة الشخص لا تدبير الهيئات والمؤسسات ومراكز التفكير والبحث. وكما يقال إذا فشلت في أن تخطط، فإنك تخطط لتفشل. فالجزائر التي عمدت إلى استنساخ تجارب الغير لم تنجح منذ استقلالها في بناء نموذج خاص بها، متميز على شاكلة ما قامت به الدول الصاعدة التي نجحت في بلوغ أهداف استراتيجيات إحلال الواردات والصادرات وتحقيق قدر كبير من الاستقلالية في القرار، ونتذكر كيف أن الجزائر بنت اقتصادها على مفاهيم التسيير الذاتي المطبق على أسس فكرية مستمدة من مفكرين من أمثال بيار جوزيف برودون وجسدتها رسميا سياسات جوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا، ثم جاء التسيير الاشتراكي للمؤسسات على أساس التخطيط المركزي للغوسبلون الروسي مقابل الصناعات المصنعة التي صيغت على أساس نظريات جون فرانسوا بورو وجيرار ديستان دوبورنيس، بل المفارقة الكبيرة أننا استنسخنا حتى تجربة الألف قرية فلاحية من خلال مشروع دولوفريي لألف قرية فلاحية في إطار مشروع قسنطينة الديغولي، واستمر الحال كما هو من تجربة إلى أخرى إلى أن افتقدنا إلى أي نموذج اقتصادي، باستثناء أننا دولة ريعية توزع إيرادات البترول وأننا أقل البلدان إنتاجية في العالم بمتوسط 6.2 دولار لساعة عمل مقابل 38 دولارا في كوريا و62 في ألمانيا، وهنا يكمن الفارق وتأتي النتيجة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات