تعتبر مهنة الطبيب البيطري حديثة العهد في الجزائر، ومع ذلك فالمشقة التي يواجهها العاملون بها تفوق العمر الزمني بكثير.. تكرار المعاناة بين رحلتي الشتاء والصيف أمر يعيد معه تفاصيل الجغرافية الصعبة في المشاتي والأرياف والمسالك الوعرة، وغياب وسائل النقل مع الخيارات القهرية، بين الاستعانة بالدواب أو المشي على الأقدام في الثلوج، واجتياز الأودية بلوغا لقمم الجبال.. مشاق كبيرة بالنسبة للرجال القوامون، فما بالك بالنساء، زيادة على النظرة “الاحتقارية” للطبيبة. كما تحدّث عدد من البياطرة عن غياب الحماية القانونية ومساعدة السلطات لهم في توفير وسائل النقل، وأكثر من ذلك عدم الاعتراف بالمهنة بانتمائهم للسلك الطبي. اقتربت “الخبر” من بعض الأطباء على هامش الملتقى الوطني الأول للأطباء البياطرة، الذي انعقد بڤالمة مؤخرا، لمشاركتهم مشاكل ومشاغل عملهم وطموحاتهم التي انصبّت كلها حول توفير تنظيم يتمثل في عمادة لأخلاقيات المهنة لتنظيم القطاع، وحتى يتمكنوا من الحصول على بعض الحقوق.الدكتور فريد قرايرية“أجتاز عشرة كيلومترات مشيا على الأقدام لتلقيح بقرة” تحدّث في البداية الدكتور قراريرية، وهو يشغل منصب رئيس جمعية البياطرة الخواص بولاية سوق أهراس، عن ظروف التحاقه بالمهنة التي تعود لسنة 2004، قال: “مضت عشر سنوات من العمل في الأرياف متنقلا ضمن نطاق إقليم تخصصي الممتد بين “لخضارة”، وهي منطقة حدودية مع تونس، تبعد عنها بحوالي 3 كلم، وعن ساقية سيدي يوسف بحوالي خمسة كيلومترات، إضافة إلى تغطيتي لمنطقتي “أولاد مومن” و«لحدادة”، وهذا العمل على الحدود المشتركة بين البلدين تتقلص فيه المسافة تبعا لاقتراب المشاتي من تونس، حتى تصل 10 أمتار فقط، وهي مناطق وعرة للغاية، تتسم بتربية وحياة بدائية، وعدد رؤوس الماشية يصبح أقل، ومع ذلك تأمين الحماية لها وللمربين ومنهم إلى باقي المواطنين هو الهم الأكبر للطبيب البيطري.قال الطبيب قراريرية إن الرحلات المتعددة باتجاه هذه المناطق تحمل الكثير من المشقة، فطرقات وعرة، وأحيانا هي عبارة عن مسالك ترابية وتكثر فيها الحجارة وتقع في مرتفعات يصعب على المركبات عبورها، وهو ما يفرض على البيطري الاستعانة بوسائله الخاصة في حال توفرت لديه، لأنه مجبر على الوفاء بالعقد المهني الذي يحتم عليه القيام بخمس خرجات على الأقل للمشاتي الواقعة في إقليم تخصصه، حيث هذه التضاريس الوعرة وتشتت توزع المربين يجعل جل الوقت يضيع في التنقلات.يعتبر عائق التنقل التعب الأكبر في مهنة البيطري قرايرية، فالمشاتي “المشتة” تجعله يقضي نصف يومه في التنقل لمنطقة حدودية من أجل تلقيح نعجة واحدة- على حد تعبيره- حيث مشقة الطريق ومخاطرها أكبر من كل شيء، قال الطبيب “لأنني ابن المنطقة وأسكن بها فهذا الدافع الأساسي للعمل، ولو كان شخصا آخر لغادرها منذ زمن”، كما يجبر على تنويع وسائل تنقله تبعا لطبيعة المنطقة التي سيقصدها بين سيارة وجرار فلاحي، وقد سبق وأن سقطت منه، وأحايين كثيرة يستعين بالدواب، حيث يقول “هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها نقلي بين تضاريس وعرة وفي مناطق معروفة بتساقط الثلوج وبلوغها مستوى قد يفوق المتر، كما أجبر على قطع مسافة تصل 10 كلم مشيا على الأقدام، وأكون فيها بمفردي، كما اجتزت الكثير من الأودية ومنها انتقلت إلى قمم الجبال لأصل إلى مربي له بقرة واحدة”.ورحلة الشتاء وقسوتها، حسب قراريرية، تقابلها رحلة الصيف، حيث المعاناة من نوع آخر مع حرارة تقارب 40 درجة، وتصبح ظروف العمل غير مواتية تماما، وتتحول المناطق إلى “قفار” يجد نفسه بمفرده يتنقل بينها، لأنه الطبيب الوحيد بالحدود الجزائرية – التونسية، لذلك يجب عليه أن يغطي حملة التلقيح كلها، وهو ما تم من قبل حيث ذكر “قمت بمفردي بتلقيح ما يقارب 2000 رأس، وبإمكانياتي الخاصة وهي تغطية كلية”، وقيامه بعمليات الولادة القيصرية للأبقار في ظروف قاسية جدا، حيث استغرقت إحدى العمليات التي باشرها بنفسه 12 ساعة دون توقف، وذكر أن هذا مرتبط بغياب مساعدين للبيطري نظرا لمحدودية دخله.كما تحدث الدكتور قرايرية، إضافة إلى همومه، عن مشاكل المربين وظروف عيشهم الصعبة، والأمية المتفشية بينهم، ما يجعل التعامل معهم أمرا صعبا بدوره، حيث يحتاج هؤلاء إلى تكوين حتى يمكنهم التجاوب مع مختلف التعليمات المقدمة لهم، يقول: “أحاول دائما أن أخبرهم بأن عملية التلقيح مهمة لحمايتهم بالدرجة الأولى، لكنني لا أجد استجابة كافية”، كما تحدث عن صعوبة حصولهم على بطاقة فلاح، وهذا الأمر له تبعات تخص عدم إحصاء المربين بشكل صحيح ومن ثمة تقدير رؤوس الماشية بكل منطقة.عندما سألت “الخبر” الطبيب قرايرية عن دور السلطات المحلية في عمل البيطري الخاص، قال إنها لا تقدم له المساعدة رغم أن العمل الذي يقوم به هو حملة لتأمين الصحة للحيوانات ومنه للإنسان، ومع ذلك لا تتدخل حتى بتأمين وسيلة نقل للطبيب عكس العامين، وهو ما يجعل البيطري الخاص عرضة للحوادث والأخطاء، كما لا يتوفر على أي نوع من الحماية، وأكثر من ذلك يقول: “لم نحظ حتى بالاعتراف بانتمائنا للسلك الطبي”.بورتريالدكتور عبد الجواد محمد العيدهناك منافسة غير مشروعة لغياب تسعيرة ثابتة وقلة التكوين للأطباء تحدث الطبيب عبد الجواد، وهو أقدم طبيب بيطري بالشرق الجزائري، الذي عين خلال أشغال الملتقى الوطني كممثل لمجموعة الخمسة المكلفة بالتشاور مع الوزارة، عن ظروف التحاقه بالبيطرة، وعن التجربة الخاصة في المهنة التي تعود حسبه إلى سنة 1988 عندما طلب القلة من البياطرة من الوزارة اعتمادهم كأطباء أحرار لمزاولة المهنة، حيث قال “كانت لدي خبرة في الإدارة وفكرت مع بعض الزملاء في الجيل القادم، خاصة ما تعلق منه بمناصب العمل التي كانت محدودة جدا، كما أن تواجدهم في الصحة الحيوانية سيكون أكثر نفعا من الإدارة. كانت بداية التجربة صعبة بسبب عدم وثوق البيطري في المهنة الحرة، ومع ذلك كانت ظروف العمل سابقا أفضل بكثير مما هي اليوم، كون المناطق كانت واسعة والطلب متزايد على البياطرة لقلتهم، لكن تزايدهم اليوم منهم 7500 خواص، 2500 عامون، 800 منهم يعملون كمندوبين هربوا من المهنة ومشاكلها، إضافة إلى 6 آلاف طبيب بطال، كل هذا خلق حالة من الاكتظاظ والفوضى”.طالب الطبيب بضرورة تنظيم المهنة، وهذا ليس على مستوى الميدان فقط، بل يتوجب على الجامعة أن تعيد النظر في طريقة عملها ولا تركز على الجانب النظري وحده، حيث الجانب التطبيقي هو الأهم فهناك الكثير من يتحصلون على شهادات في التخصص ولا يستطيعون القيام بأعمالهم، ولذلك يجب التنسيق بين الوزارتين بإجراء أيام تكوينية وإيفاد بياطرة مكونين لإجراء تربصات، وكذا إلزامية إجراء تربص لدى طبيب بيطري قبل مزاولة المهنة بالنسبة للمتخرجين الجدد حتى يكتسبوا خبرة. كما أسفرت هذه العوامل، حسب الدكتور عبد الجواد، عن خلق منافسة غير المشروعة، ومع غياب إطار قانوني منظم للتسعيرة سمح بالمزايدة في أسعار البياطرة، كما انتقد المبالغ المحددة من الوزارة في حملات التلقيح والمتدنية جدا، حيث قال “لو طلبت الوزارة منا التطوع لكان أفضل”.ومع كل السلبيات التي تشوب المهنة تبقى، حسب الدكتور عبد الجواد، مهنة نبيلة، كونها نقطة الوصل بين صحة الإنسان والحيوان، حيث 70 بالمائة من أمراض الإنسان مصدرها حيواني، ومع ذلك تقلّ استشارة البياطرة في عدد من الأمور كالحمى المالطية. وطالب بإحصاء عام للثروة الحيوانية، مع هيكلة المربين الذين لا يتوفرون على أراض فلاحية بمنحهم بطاقات مؤقتة لتحديدهم، حيث 90 بالمائة من المربين ينتشرون في الجبال، وهذا يتطلب خلق ملف مركزي يضم معلومات جامعة عنهم، كما طالب الدكتور عبد الجواد بالتفاتة من الوزارة الوصية للبياطرة العاملين بالمناطق النائية، بتوفير محل إقامة لهم بالنظر لظروف عملهم الصعبة مضاف إليها التنقلات اليومية.شاهد من أهلهاالطبيبة خديجة بومقورةالمرأة البيطرية تحدّت العقلية الاحتكارية والطب الحيواني هو إنقاذ حياة كائن إذا كانت مهنة الطبيب البيطري شاقة على الرجال، ويجدون صعوبات كبيرة في التنقل للأرياف والمشاتي، فهي أكثر صعوبة بالنسبة لواحدة من أولى الطبيبات اللواتي زاولن المهنة بناحية قسنطينة، وتزامن ذلك وفترة الإرهاب، حتى العائلة رفضت التحاقها بالمهنة خوفا على حياتها، ومع ذلك دافعت الطبيبة بومقورة، وهي نائب رئيس جمعية الأطباء البياطرة بقسنطينة، عن مهنتها في السابق مثلما تدافع اليوم لتحسين الأوضاع المهنية والدفع بها نحو حلول عاجلة، تحدثت بدورها وكباقي زملائها عن طول المدة وتعاقب الوزراء دون أن تعرف تنظيما، ولا تحسينا في ظروف العمل.يعتبر ذلك أحد العوامل التي جعلت “الخبر” تقترب من الطبية بومقورة، وتحاول معرفة الدافع وراء اختيارها لهذه المهنة الشاقة والخطيرة، وكيف لسيدة أن تتعامل مع الحيوانات، تعالجها وتوفر لها الحماية اللازمة وتحنو عليها كأم “رؤوم”، فاجأتنا الطبيبة بومقروة بصلابتها وبإرادتها الكبيرة، 18 سنة من الكفاح في هذا الحقل الاستثنائي الذي كانت الدراسة فيه مجرد انتقاء من القدر، كان طموحها الطب البشري، لكن القدر فضل لها الطب الحيواني. قالت الدكتورة بومقورة “وجدت بعد الممارسة للمهنة أن البيطرة لا تختلف عن الطب البشري، فكلاهما يقوم على إنقاذ حياة “كائن”، وخلال مدة 6 أشهر من بداية العمل طرح اللّه على يدي الشفاء للعديد من الماشية، وتزامن ذلك وفترة الإرهاب الصعبة، وهي التي فرضت تغيير مخطط عملي، كنت أرغب في فتح عيادة بمنطقة “بني حميدان” لكن الأمر أستقر على بلدية “عين عبيد”، كان التنقل في البداية عبر سيارات “فرود” كنت أطلب من المربين تقديم بطاقات الهوية وأسجل رقم السيارة وكل المعلومات المتعلقة بالمربي، وهذا خوفا من تعرضي لأي حادث، وبعد عامين تمكنت بفضل عملي من اقتناء سيارة صغيرة ساعدتني على تحقيق التحرر في التنقل، قمت بمسح شامل لمنطقة عملي، بحثت في الأمراض المختلفة التي تصيب الماشية وعن علتها، وتعمقت أكثر في المهنة”.ترى الطبيبة أن عمل المرأة في بعض القطاعات خاصة في بداية إطلاق التخصصات على غرار البيطرة يجر عليها الكثير من الأذى، وهذا ليس من المواطنين عموما، بل حتى من زملاء المهنة “الرجال”، حيث تسود النظرة الاحتقارية للمرأة، ويفرض ذلك على المرأة أن تتعامل بذكاء، “أذكر أن أول درس تلقيناه في الطبيب البيطري حول كيفية التعامل مع الإنسان والحيوان، وثمة تقنيات في التواصل معهما، هذه المهنة التي تعتبر “زبدة” المهن في الخارج لا تعطى لها القيمة نفسها هنا”، ومع ذلك تقول “لم يثنني الأمر، فبعد مرور خمس سنوات تجاوزت الصعوبات، واكتسبت خبرة أكبر، وأكثر من ذلك اندمجت في جمعية البياطرة الخواص بولاية قسنطينة وعينت كنائبة رئيس لمدة 10 سنوات وما زلت لليوم”.قالت الدكتورة بومقورة “عالم الفلاحين وعر للغاية، وتنعدم فيه الرحمة، وذلك ما عشته مع زميلتي في البداية، قبل أن تتوسع دائرة الطبيبات البياطرة اللواتي يصل عددهم اليوم 28 طبيبة، كما أن كثافة وضغط العمل أكبر مشقة بالنسبة لي، حتى إنني تمنيت لو تضاف لي أربع ساعات زيادة على توقيت عملي الثابت الذي لا يكفي لتغطية مختلف المشاغل، حيث أتنقل يوميا من قسنطينة إلى عين عبيد ومنه إلى المشاتي بمسافة تقارب 120 كلم، لتوفير الحماية اللازمة للماشية”.وأضافت السيدة بومقورة، وهي أم لطفلة، فيما يخص كيفية التعامل مع الأبقار والأغنام، أن الخبرة المكتسبة “تجعلني أتعامل بذكاء معها. قبل مباشرة عملي أحاول فهم مزاج الحيوان وهو مهم جدا، ويبقى مع ذلك عمل صعب للغاية، لكني أؤديه بنية حماية الكائن، وكثيرة هي المرات التي عملت دون مقابل، فالطبيب مهنته تفرض عليه تغليب الجانب الإنساني على كل شيء، ومع ذلك وفي مواجهة أولى مع الخطأ يعتبر البيطري قاتلا وليست له قيمة من وجهة نظر المربين”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات