لقد أبرز بعض المؤرخين في السنوات الأخيرة أن وجهة النظر التي تهتم بالتاريخ تنتمي ـ في حدود معقولة - إلى العلوم الاقتصادية ولذلك فقد باشروا حوارا مع الاقتصاديين من خلال إشكالية العلاقات الموجودة بين البنية والتاريخ، وقد نجد عند هؤلاء الباحثين العناصر الأساسية لنظرية من هذا النوع: مفهوم المجتمع كنسق أو بنية مادية أولا وقبل كل شيء، ثم كفكرة تربط بين النسق الاجتماعي وأجزائه المكونة، ثم كمضمون العلاقة بين العناصر المختلفة التابعة من الفردية الشخصية (الوقائع التاريخية والنتاجات الخاصة بالفرد)، فالمستوى المزدوج الذي يجمع بين الطابع الواعي على صعيد الأفراد والعلاقة بين النسق وبين ما هو تاريخي، أو بالأحرى بين التغييرات وتحولات النسق إلى ما هو مغاير له ومعاكس ونقيض.لذا، فإن المعطيات الاقتصادية تلعب دورا أساسيا في الإلمام بالمشاكل الأساسية التي تنظم الكيان العام في دولة ما، وهذه الملحوظة هي بديهية في الحقيقة ولا نقاش فيها، لكن عندما نحلل (أو نحاول تحليل) الأحداث السياسية التي عاشتها الجزائر منذ عشر سنوات، نجد أن العنصر الاقتصادي يكاد يكون مفقودا خاصة عند المثقف الذي أصبح يتحدث ويحلل ويناقش كل الأمور، إلا ما هو اقتصادي منها فنجده يضع “الديمقراطية” كعنصر أساسي وأولوي في كل مناسبة، كما يطرح ويكرر طرح عنصر “الحريات” وعنصر “حقوق الإنسان”. فما معنى الديمقراطية بالنسبة للبطال أو بالنسبة للعامل البسيط الذي لا يقدر على تقديم أدنى الأمور لعائلته؟ خاصة ونحن نعلم أن كلمة “ديمقراطية” كلمة يونانية كانت تسيطر على “أثينا” على وجه الخصوص، عندما كانت تتكون من ألف مواطن حر ومن مائة ألف “عبد”.فهل هذه الديمقراطية هي التي جعلت السعيد سعدي يلتقي مع علي بلحاج؟ هل هذه الديمقراطية التي جعلت الأحزاب الإسلامية تنضم إلى المجموعة المعارضة، حيث تنشط كذلك بعض الأحزاب العلمانية؟أما الهوس الآخر الذي يعاني منه المثقف في بلادنا فهو هوس “الحريات”: حرية التعبير وحرية المعتقد وحرية الضمير، إلخ.. ولكن ما هو مفعول هذا الهوس الذي لا يرتبط بهوس الفقراء؟ وكأن المثقف يضع غشاوة على الحقائق الصلبة والمتعنتة وهكذا أصبح المثقف الجزائري يميل إلى الانتهازية وإلى فلسفة “الهم هم” وينزلق يوما بعد يوم نحو هاوية اللبرالية، لأنه يجد فيها مصلحته ومنفعته المادية الخام (بناء المنازل الفخمة وشراء السيارات الضخمة و..).فيتيه إذن المثقف الجزائري بين متاهات الدولة ودهاليز رجال الأعمال وينسى هكذا أن كلمة “مثقف” التي تنعته لها مثقالها.فيدخل بعدها في منطق البر والإحسان ومنطق عقدة المستعمر التي تحدث عنها فرانتز فانون منذ أكثر من خمسين عاما، فيتجاهل هكذا ما جاء في القرآن الكريم “يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم”.فكل مثقف ينفي هذا الإطار الذي يدمج التاريخ والاقتصاد إنما هو يمارس التطير الأحمق والأنانية المتبرجة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات