لم أقرأ أي رواية من جنوب أمريكا قبل دخولي الجامعة ودراسة مادة ”الأدب والسياسة”، والتي بفضلها درسنا عيون الروايات العالمية، أذكر منها رواية ”مائة سنة من العزلة”، ففتحت عيوننا على ”الواقعية السحرية”. واعتقدت حينها أن كاتبها، الروائي الكولومبي غارسيا ماركيز، استلهم بعضها من ألف ليلة وليلة. بيد أن الناقد محمّد محمّد الخطّابي أكد لي أنني قارئ غير نبيه لأن الرواية المذكورة ليست صيغة أمريكية من قصص ألف ليلة وليلة التي تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ استقلالها إلى الوقت الحاضر، وهذا دفعني إلى البحث عن العلاقة بين الطابع السحري في ألف ليلة وليلة والواقعية السحرية لدى خوان رولفو، وغارسيا ماركيز، وكارلوس فونتز، وجيم سينز، وغيرهم. واكتشفت أن السحر في ”ألف ليلة وليلة” فاض عن الضرورة الأدبية لينفصل كليا عن الواقع، ويسكن في الخيال، وهذا خلافا لموقع الواقع في الواقعية السحرية. وحتى أكون واضحا، أكثر، أزعم أن المشهد الذي يأتي فيه الغجر إلى قرية ”ماكوندو” الأسطورية في الرواية المذكورة، بألعابهم النارية وكرتهم ”الكريستالية”، ويسلبون سكانها ذاكرتهم ولا يستعيدونها إلا بعودتهم بعد سنة، يُعد ضربا من الواقع السحري. أما الحديث عن أمة فقدت ذاكرتها إلى الأبد وعجزت كل الحيل عن إعادتها لها لا تنتمي إلى الواقعية السحرية، لأنها تشكل واقعا حافيا. لذا، رفض غارسيا ماركيز تحويل روايته المذكورة إلى فيلم رغم كثرة الإغراءات المالية، وقد علّل ذلك بالقول إن المئات من الأشخاص من مختلف بلدان العالم راسلوه ليخبروه أن الجدة أورسولا” في الرواية المذكورة تشبه جداتهم. وقد أبى أن تتقمص دورها ممثلة ما، ولتكن صوفيا لوران مثلا، حتى لا تصبح واقعا منزوع السحرية. وقصة هؤلاء الأشخاص مع الجدة ساعدتني على إدراك أن لكل مجتمع واقعه السحري الخاص. فالروائي السوداني ”عبد العزيز بركة ساكن”، مثلا، يعتقد أن الواقعية السحرية تشكل نسغ الحياة الاجتماعية في السودان. ولإثبات ذلك يستشهد بالنص السردي الموسوم ”طبقات ود ضيف الله” الذي ألّفه الشيخ ”الأمين الحاج محمد أحمد” قبل مئات السنين، ويسرد فيه وقائع يومية حدثت أو يظن أنها حدثت لشيوخه وأفراد مجتمعه: منهم من كان يطير، ومنهم من ينسخ من نفسه عشرات الأشخاص، ومنهم من يستطيع الحضور في أمكنة عديدة ومختلفة في الوقت ذاته، ومنهم من يمشي على الماء، وغيرها من العجائب. ويذكر الروائي ذاته أن أهله وسكان قريته مازالوا يؤمنون بـ”البعاتي”، وهو شخص يستيقظ بعد الموت بثلاثة أيام من موته! ويستطيع رجل يُسمى ”الكجوري” في بعض قرى كردفان في جبال النوبة بالسودان أن يأتي بالمطر وقتما يشاء وأينما يشاء وكيفما يشاء، وأن يرسل الصواعق للصوص والمجرمين. بإمكان أي من القراء أن يحمل عددا كبيرا من العقارب والثعابين السامة جدا في يديه إن حُصَّن بتميمة اسمها ”ضامن عشرة”. و”القمباري”، الرجل الذي لا يستحم إلا عندما ينزل المطر، شخصية موجودة في مئات القرى بالسودان، مهمته هي توجيه الجراد وإبعاده عن مزارع أهل القرية مقابل وعد ببعض الذرة بعد الحصاد، ومن لم يف بوعده يرسل له الجراد في العام القادم. و«القمباري” يولد وفي معصمه نقش لجرادة. ويؤكد هذا الروائي صادقا أن والدته ظلت تعتقد أن ما يكتبه من روايات يمليها عليه الجن الذي كان يشاطرهم السكن.إن غارسيا ماركيز لم يتحدث عن الواقعية السحرية عندما اعتلى منبر الأكاديمية السويدية لنيل جائزة نوبل للآداب، يوم 8 ديسمبر 1982، لأنه نقلها إلى الورق، وبإمكان أي قارئ أن يعود إليها. لقد تحدث عن واقع أمريكا الجنوبية بكل مآسيها وعزلتها حتى بعد أن تحررت من ربقة الاستعمار، وكأنه كان يخشى أن يفهم قارئه أن هذه المنطقة من العالم لا تملك من الواقع إلا سحره. أو شعر بقصور بعض وسائل الإعلام التي تجتهد من أجل إضفاء طابع أسطوري على الواقع، فتقدم لنا الأشياء المألوفة وحتى الروتينية على أنها خارقة للعادة وأسطورية، فننسى أنها عادية، ونندهش لطابعها الغرائبي.أخيرا، هل لاحظتم أنني لم أشر قط إلى الشيخ باللحمر الذي حولته بعض وسائل الإعلام الجزائرية إلى نجم، ونفخت فيه قدرة تضاهي قدرة الذين ذكرهم الروائي السوداني؟ إن الواقعية السحرية تصبح شعوذة ودجلا إن رُحلت من نص أدبي إلى نص صحفي.www.nlayadi.com
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات