عندما يشاهد المرء بكاء الفرنسيين على انهيار مفخرتهم الصناعية “ألستوم” التي أخرجت قطار “تي جي في” للعالم، وتَحَين شركة “جنرال إلكتريك” الأمريكية الفرصة للانقضاض عليها، يدرك أن اقتصاد اليوم صار عالما بدون عواطف، يأكل فيه القوي الضعيف والكبير الصغير، حتى بين الحلفاء أنفسهم.الفرنسيون سلموا قبل ذلك رقابهم إلى الصينيين من أجل إنقاذ شركة “بيجو”، ولم يترددوا أيضا في بيع أفخم الفنادق الباريسية لقطر حتى ينقذوها من شبح الإفلاس. ودون الفرنسيين، سلكت العديد من الشركات الأوروبية هذا الطريق فكاكا من أزمتها الخانقة.في خضم كل ذلك، تنام الجزائر على ثروة مالية بـ200 مليار دولار، تتصرف معها بغباء الذي ورث مالا عن أبيه فوضعه في الخزائن وأغلق عليه الأبواب خوفا من ضياعه، حتى إذا اضطرته الحاجة يوما إلى استعماله، وجد أنه لم يعد يساوي شيئا بعد أن أكل الزمن قيمته.الجزائر تضع جزءا من ثروتها في أمريكا كسندات خزينة، وتودع الباقي في البنوك المركزية الأوروبية. كل ذلك بمعدل فائدة ضعيف جدا لا يتجاوز 1,3 بالمائة، يدر أرباحا لا تتجاوز 4 مليار دولار من رأسمال ضخم موظف، وهو ربح بطعم الخسارة إذا ما قيست الفرص الضائعة من توظيفه بطرق أخرى أكثر ابتكارا.قد نفهم أن الاقتصاد الجزائري بوضعه الحالي لا يستطيع استيعاب هذه السيولة الضخمة المتأتية من أموال البترول، لأن المنظومة المؤسساتية في البلاد ضعيفة ويغلب عليها الطابع التجاري الذي يعيش على ما تجود به آلة الاستيراد، وبالتالي لا يمكن لهذه المؤسسات توظيف هذه المبالغ دفعة واحدة في تطوير قدراتها وتوسيع نشاطاتها.شطار الخليج عانوا من نفس المشكل لما نزلت عليهم الفوائض البترولية، لكنهم تصرفوا بشكل مغاير، حولوا معه المبالغ الطائلة التي ملأت خزائنهم إلى أدوات استثمار يوظفونها في كبرى المؤسسات العالمية. فهذه قطر اشترت 10 بالمائة من أسهم شركة “بورش” الألمانية للسيارات الفاخرة، وإمارة دبي لديها 2 بالمائة من شركة “مرسيدس”، وتمتلك السعودية حصصا في شركات بترولية عالمية.لكن الجزائر ترفض، إلى اليوم، إقامة صندوق سيادي تستثمر فيه فوائضها المالية، ولو فعلت ذلك لحققت عصافير عدة بحجر واحد: القدرة على توجيه قرارات الاستثمارات في الشركات العالمية باتجاه الجزائر، الحصول على التكنولوجيا، رفع معدلات الصناعة في الناتج المحلي الخام، التقليل من ظاهرة البطالة والحد من الاستيراد.رغم كل العراقيل التي تضعها الدولة في وجه هذا النوع من الاستثمارات، استطاع رجل الأعمال يسعد ربراب أن يحقق صفقة بشراء شركة الصناعة الكهرومنزلية “فاغور براندت” بـ200 مليون دولار، وحقق مجمع بن حمادي صفقة هامة بالحصول على شركة المقاولات البلجيكية المتعثرة “باتيجاك” بحوالي 15 مليار دينار. والغريب أن لا أحد انتقد هاتين الصفقتين سواء من السلطة أو المعارضة أو الخبراء.. فلمَ لا تقوم الحكومة التي تمتلك الأموال بالسير وراء هذا النموذج؟صحيح لا يجب أن نجعل من ثروة الجزائريين أداة للمضاربة بشراء الأسهم السامة في البورصات العالمية، لكن توظيفها في أصول مؤسسات قوية لا تغامر بسمعتها أو مستقبلها أفضل للبلد من جعلها تتآكل بفعل التضخم العالمي في البنوك المركزية العالمية.حقا.. في العالم دول استطاعت أن تخرج من دائرة الفقر.. بينما لا تعرف الجزائر التصرف حتى مع الغنى[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات