يقول الروائي اللبناني أمين معلوف في كتابه الموسوم “اختلال العالم: حضارتنا المتهافتة “، الصادر في 2009 عن دار غراسي الفرنسية: “كنت في سنوات الصبى في لبنان أطالع مجموع الصحف المحلية كل صباح. وكان والدي يدير جريدة يومية ويرسل نسخة منها، من باب المجاملة، إلى زملائه، وكانوا يبادلونه بالمثل. وذات مرة ساءلته، أي صحيفة يجب أن نصدق، وأنا أشير إلى رزمة الصحف التي وضعها بجانبه؟ فأجابني دون أن يتوقف عن القراءة: جميعها ولا واحدة. وأضاف قائلا: لا تأتيك أي واحدة منها بكل الحقيقة، فكل صحيفة تعطيك حقيقتها. فإذا قرأت كل الصحف وكنت تتمتع بقوة البصيرة تفهم ما هو جوهري”.إن هذا القول لا يتضمن إشهارا مجانيا لقراءة كل الصحف حتى نفهم جوهر ما يجري حولنا وإنما ينبهنا إلى أن العنصر الأهم في عالم الإعلام هو الجمهور، لذا يجب أن نراهن على بصيرته وقدرته على فرز السمين عن الغث فيما يقرأ. بيد أن هذا القول يحث على التفكير للبحث عن دلالاته ويبرر، ضمنيا، الشك في صحة ما تنشره الصحف، وهذا ما جعلنا نرهف السمع إلى محطات الإذاعة وننتقل بين القنوات التلفزيونية ونسبح في شبكة الأنترنت للقف الخبر الذي يكذب سابقه. الشك الذي يراه الفيلسوف والمحلل النفساني، ميغال بنسياغ، ناجما عن فقدان الكلمة لهيبتها وقداستها. فالكلام أصبح يتساوى بصرف النظر عن المتحدث. فلا فرق بين ما يقوله المتعلم والأمي، ولا وزن لحديث العالم أمام قول الجاهل طالما أن كل قول تحول إلى رأي. ولا فرق بين صحيفة تتحقق من صحة المعلومات التي تقدمها وتلك التي تضلل. فمالكو سلطة القول، بصرف النظر عن موقعهم في المجالات التالية: السياسة والحكم والإعلام والدين والعلم، ابتذلوا الكلمة وجردوها من جوهرها فأسقطت سلطتهم. ومن هذا المنظور، فإن الفيلسوف المذكور يرى الصحافة لم تتغير بل أهمية الكلمة هي التي تغيرت بعد أن فقدت وزنها وسحرها في حياتنا. ربما يعتقد البعض أن ابتذال الكلمة يعود إلى تكنولوجيا الاتصال الحديثة التي سمحت لكل شخص بأن يتكلم ويدلي بدلوه ويخوض مع الخائضين في أعقد الأمور، معتقدا أن ما يقوله ليس أضعف وأسخف مما يقوله غيره!معاذ الله أن أكون ضد حرية التفكير وأقف ضد حق كل شخص في التعبير، كما يفهم البعض مما سبق ذكره. فما أريد أن أقوله إن هذه التكنولوجيا أثبتت، من جديد، أن لكل شخص حقيقته، ولكل صحيفة حقيقتها التي تدافع عنها. والتسليم بهذا الأمر يعني أنه لا وجود لحقيقة واحدة. إذا؛ فلنقل لأفلاطون مع الفيلسوف رفائيل انفتفون إن الفلسفة لم تعد تعني البحث عن الحقيقة، بل إنها حداد على ضياع الحقيقة. ونؤمن بما قاله الفيلسوف سبينوزا: إن الفلسفة ليست البحث عن الحقيقة، بل إنها شكل من إدراك الواقع. وما أحوجنا إلى ذلك اليوم في عالم يزداد تعقدا وتتكاثر مفارقاته. إذا، الحقيقة ليست هي الواقع، ولا تعّد مؤشرا على وجوده، كما يؤكد ذلك أتباع أرسطو. وإن اقتنعنا بوجهة النظر هذه فهل يمكن القول، من باب الاختصار، إن وسائل الإعلام لا تعبّر عن الحقيقة، بل تعكس الواقع؟لقد طلّق الكثير من الدارسين الفكرة التي مفادها بأن وسائل الإعلام تعكس الواقع، واعتنقوا النظرية التي ترى بأنها تعيد بناءه، أي أن كل وسيلة تتحدث عن الواقع كما تراه. وحتى لا أتهم بأنني أتستر على تجاوزات بعض وسائل الإعلام، وعلى ما تمارسه من تضليل بحجة أنها تعبّر عن حقيقتها أو تبني الواقع من وجهة نظرها، وحتى أبيّن المغالطة في فهم وسائل الإعلام دون الطعن في النظرية المذكورة التي أكدتها الكثير من البحوث في بيئات ثقافية مختلفة، منذ نصف قرن، يمكن القول إن هذه النظرية تنص، بشكل ضمني، على ضرورة أن تشترك وسائل الإعلام المختلفة في بعض مواد البناء، على الأقل، التي تستخدم في بناء الواقع الذي تراه. لكن ماذا إذا كانت ما تستخدمه من مواد بناء مغشوشا؟ أي أنها تحرف أقوال الغير وتزوّرها عن وعي، وتركّب الصور من أجل التضليل مع سابق الإصرار والترصد، وتتلاعب بالأرقام والإحصاءات وتعبث بها و« تستحمر” الجمهور أو لا تعبأ به أصلا. ففي هذه الحالة تتحول إلى مصنع لإنتاج خطاب إخباري لإعلام جمهور متخيل عن واقع افتراضي تعبّر عنه المحكيات التي اُبتذلت من كثرة تكرارها. لكن ابتذالها تحول، مع الأسف، إلى قوة تدهس الخطاب العلمي والتحليلي. سأقف عند هذا الحد حتى لا اتهم باجترار القول والمساهمة في ابتذاله.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات