تحول الجسد البشري بعين الفوارة وعبر التاريخ، إلى ظاهرة ثقافية شعبية وإلى نموذج رمزي يحتضنه المواطن الجزائري وترتبط به مدينة سطيف.
وانطلق الدكتور سامعي توفيق مختص في الأنثروبولوجيا بجامعة سطيف2، في تحليله للموضوع من ما يمثل المجال الدراسي الأساسي لأحد فروع الأنثربولوجيا الدارس للجسد، وهو أنثروبولوجيا الجسد، والذي يعتبره كأداة للمعرفة وكطريقة للتذكّر. مؤكدا بأن ميشال فوكو يؤكد على أهميّة الجسد كوثيقة تاريخيّة، حيث يشكل إحدى أهم الوسائط التي استخدمت لممارسة وتمرير سلطة مُغلقة ورقابة سياسيّة رهيفة. ومن هنا طرح سؤاله بخصوص مصدر نشأة عين الفوارة، وما هي غاية سلطات الاحتلال سنة 1898 عندما أقدمت على تنصيب تمثال هذه الأنثى الحسناء، العارية وصاحبة الشعر المترامي في هذا المكان بالذات. ليعود للمكان الذي كان قبل التواجد الفرنسي ينبعُ بالماء أمام أعرق مسجد جامع بالمنطقة، وهو جامع العتيق الذي يمتد إلى العهد العثماني. وقد أنتجَ ينبوع الماء المتدفّق باستمرار، وعبر الزمن، موقِعا للتجمّع والالتقاء والاغتسال والتطهّر من أجل الصلاة في هذا الجامع. وكونه كان موقعا للتجمّع والتطهّر، يعني احتوائه للرمزيّة الثقافيّة والدلالات الروحيّة، بالمفهوم الأنثروبولوجي، أي موقِعاً رحباً للذات البشريّة في تلك الآونة. وإذا علِمنا أنّ الأنثروبولوجيا كعلم الإنسان والثقافات قد وُظِّفَتْ فعلا للتأثير على الاتجاهات التصوّريّة للسكان الأصليين بُغية تسهيل الهيمنة عليهم وإقناعهم بالأذواق الفنيّة الرومانسيّة الفرنسيّة، فإنّه من المحتمل جدا أنّ يكون غرض تنصيب تمثال للمرأة العارية في هذا المكان تحديدا، مكان اللقاء المكثّف من أجل التطهّر أمام الجامع المذكور، يكمنُ في محاولة كَسر الشعور الديني المحاط بمشاعر العِفّة والحياء. لكن ومن المفارقة أنّ الغرض لم يتحقّق رُغم المظهر المغري للتمثال، ذلك لأنّ طابع التطهّر الذي كان يطبع المكان في تلك الفترة، بقي طابعاً سائدا كسلطة معنويّة مدعومة بتواجد المسجد العتيق، سلطة تفوق أثر المظهر الخارجي لهذه المرأة، مما يدلّ على أولويّة العناصر المعنويّة على العناصر الماديّة، بالنسبة للبشر. مَثّل المكان في الذاكرة الشعبيّة القديمة، السابقة للوجود الفرنسي، صورةً ذهنيةً مُهيْمِنةً تمثّلتْ في اللقاء الحميمي بين الناس من أجل التلاقي والتخاطبِ والتطهّرِ. فلا بأس بتواجد هذه المرأة المعبّرة عن أنوثة ترمز إلى الحياة المستمرّة بفضل المياه المتدفّقة من جوانبها الأربعة. لقد اجتمَعَ في عين الفوارة كل من حيويّة الحياة المتمثلة في عنصر الماء من جهة، وأبديّة النرجسية الأُنثوية المجَسّدة في التمثال، من جهة أخرى، مما يُعبّرُ عن ازدواجية رمزيّة فاعلة نفهم من خلالها القيمة المعنوية التي تحتفظ بها عين الفوارة منذ تواجدها في أواخر القرن التاسع عشر. لكن، الملاحظ أنها أنثى لوحدها دون الرفيق، وكأنّها تقول للمشاهد الذي يتأملها إنّني لستُ ملكا لأحد، إنني مُعلّقة ومُثبّتة هنا، لأرحّبَ بكلّ زائرٍ يقصدني، إنّني لؤلؤة نادرة أطلّ على بني البشر. وعاد الأستاذ إلى تعرّض عين الفوارة لعمليّة تخريبيّة إبان العشريّة السوداء، وقد أدى هذا الحادث إلى استياء واسع لدى المواطنين وكأنّهم عايشوا شعورا بالتلف الوجداني، ذلك من أجل القيمة المعنويّة التي ترمز إليها هذه العين. وقد تمّ استدراك الموقف بعمليّة ترميميّة سريعة ودقيقة أرْجَعت الشعور بالاستحسان والرضا، تحيّة للعمل الفني المعتبر والمهم يُواصل المكبوت الإنساني القفز كما يُريد، ومتى يُريد. هو الذي سيُقرّر بنفوذه الموْثوق استمراريّة هذه المرأة الحجريّة، أو زَوالِها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات