+ -

 ليسمح لي الشاعر والناقد التونسي، منصف الوهايبي، أن ألومه على مقاله الذي استعرض فيه أحداث القصة القصيرة الموسومة “الطاولة هي الطاولة”؟ لقد حفّزني على قراءتها. ويا ليتني ما فعلت. فرغم أنها من نسيج الخيال الذي يتقاطع مع الواقع، بهذا القدر أو ذاك، إلا أنني اعتبرتها واقعية جدا رغم تقاطعها مع الخيال. فزعزعت كياني، والسبب في ذلك أنها دفعتني، أكثر من المرة، إلى التوقف للتفكير بالصوت المسموع وأتساءل: هل أصيب الناس بما أصاب الشيخ بطل القصة المذكورة، لكن ماذا أصابه بالضبط؟“الطاولة هي الطاولة” قصة قصيرة من تأليف الكاتب السويسري “بيتر بيخسّل” صدرت ضمن مجموعة قصصية للأطفال. نقلها المترجمان كلود ميار ومارك شوير إلى الفرنسية عن اللغة الألمانية في 1971. وتحكي عن شيخ طاعن في السن لا يملك من متاع الدنيا سوى غرفة تحتوى على كرسيين وطاولة، وزَربيّة وسرير وخزانة ومنبه وألبوم صور ومرآة و”بورتري”. وكان الروتين يستهلك ما بقى له من أيام في دنياه. فحياته التي تعانى من قحط العلاقات الاجتماعية بدأت تتآكل بفعل الوحدة والرتابة والملل. فخاطب نفسه قائلا: إنها الطاولة ذاتها التي تعوّدت أن أراها، والكرسيان هم ذاتهما، والسرير هو نفسه، والمرآة هي عينها التي لا تتغير. فكّر مليا في هذا الأمر الذي يبدو أنه اكتشفه لأول مرة واتّخذ قراره قائلا: لا بد أن تتغير كل هذه الأشياء بدءا من اليوم حتى تتغير حياتي. وهكذا قرر أن يسمى السرير “بورتري”، والطاولة زَربيّة  والكرسي منبها والجريدة سريرا، والمرآة كرسيا، والمنبه جريدة، والزَربيّة خزانة، والصورة طاولة، وألبوم الصور مرآة. وبهذا أصبح الشيخ يعبّر عن بداية يومه بالقول، على سبيل المثال: “نمت فوق “البورتري” إلى غاية الساعة التاسعة، فرنّ “ألبوم الصور”، فاستيقظت ووقفت فوق الخزانة حتى لا تبرد رجلاي”. لقد وجد الشيخ هذا الأمر مسليا فراح يضحك بصوت مرتفع إلى درجة إزعاج جيرانه، فنهروه بدقهم على جدار بيته.واصل الشيخ تسليته. فاشترى كراسا وقلما وبدأ بتدوّين كلماته المستبدلة. فحفظ الأسماء الجديدة لكل الأشياء المحيطة به والتي تخطر على باله. ونسي في الوقت ذاته أسماءها الحقيقية. لقد امتلك لغته الجديدة.انتهت هذه القصة دون أن يخبرنا كاتبها هل أن هذه اللعبة المسلية قد أفضت إلى صمت الشيخ الأبدي، لأن اتصاله بالغير قد توقف بفعل تعطل الكلمات التي استبدل معانيها أو المعانى التي غيّر كلماتها. بيد أنه دعا القارئ إلى القيام بالتجربة ذاتها والسعي إلى تغيير معاني بعض الأشياء بعد استبدال مسمياتها.لست أدري عزيزي القارئ ما وقع هذه القصة عليك؟ وأصارحك القول أنها غيّرتني كثيرا، ودفعتني إلى التزام الحذر من حديث الغير. حيث يتخيل لي أن بعضهم إما تقمصوا دور الشيخ المذكور أو لبوا دعوة الكاتب “بيتر بيخسّل” وخاضوا التجربة ذاتها التي قام بها بطل قصته. فعندما أستمع إلى أحدهم يتحدث عن “الانتخابات” و”الديمقراطية” و”حرية التعبير” أو “الحزب السياسي” أو “البرلمان” أو التلفزيون” أو الصحيفة، و... أتساءل هل يقصد بها ما هو معروف ومتداول لدى العامة أو أنه خصها بمعان مختلفة لأنه استبدل مسمياتها.أعتقد أن القصة المذكورة لا تطرح مسألة لسانية محضة، بل تثير قضية ثقافية وسياسية. فحظ هذا البطل أنه عاش في مجتمع قد يحكم عليه بالصمت الأبدي لأنه لن يجد من يفهم كلامه. لكنه لو عاش في مجتمعنا سيفهم، وربما يجد من يصفق له إعجابا ببلاغته! والسبب في ذلك ليس لأننا شعب نعيش في عالم الاستعارة وبه. وأن كل واحد منا يسعى إلى تحقيق ذاته في الكلام، بل لأن اتصالنا اليومي أو الرسمي ليس صريحا بل ضمنيا. أي أن المعنى في اتصالنا لا يكمن فيما نقوله، بل فيما لا نتلفظ به. إننا نلف وندور حتى يفهم المتصل القصد من حديثنا. قد يقول قائل إن القصة المذكورة تنطبق على المجتمع الذي صدرت فيه لتبشر بهيمنة اللّغة المخدَّرة و”المصحَّحة” سياسياً. بيد أن من يؤمن بنظرة الكاتب أوجين يونسكو إلى اللّغة يعتقد أن هذه القصة تجسد خصائص اللسان الذي يقول عنه إنه لم يعد وسيطا أمينا لنقل أي شيء على الإطلاق، وإنما أصبح شاهدا من شواهد العبث على وجود قائم. فمنطق هذا العبث جعل بعضنا أبطال هذه القصة والبعض الآخر ضحاياها. والقليل من هؤلاء الضحايا يعي ذلك.ألم تلاحظ عزيزي القارئ أنني لم أتمكن من الخروج عن منطق الاتصال الضمني الذي يتحكم في ثقافتنا؟ 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات