يعتبر الخطاط الجزائري عبد الوهاب خنينف من أبرز الخطاطين الجزائريين الذين أبدعوا في رسم الخط القرآني الكريم، وتمكن لأول مرة في تاريخ الجزائر من كتابة المصحف الشريف بيده وبخط عربي مغاربي أصيل. نال هذا الخط إعجاب وزير الشؤون الدينية، بوعبد الله غلام الله، وعرضه في مختلف المعارض الدولية بدار الإمام في العاصمة.يفضل عبد الوهاب أن يعود بنا إلى طفولته، حيث كان يكتب الآيات القرآنية في كل مكان، في الجدران والأرضيات وغيرها، وكان والده يضربه بشدة ويقول “إنها آيات الله عز وجل لا يجوز كتابتها في أي مكان”. بعد هذه المقولة، بكى عبد الوهاب كثيرا عندما تذكر والده وقال: “بدايتي كانت ببردة العلامة الفقيه البصيري”.وفي هذا الصدد، يروي عبد الوهاب حبه الشديد للبردة، ومن كثرة قراءته لها، قام بكتابتها ومن ثم طباعة 1500 نسخة، ثم وزعها على الأساتذة الذين يرتادون مديرية التربية آنذاك حين كان موظفا هناك، قبل أن يصبح أستاذا للتربية التشكيلية، حيث تتوفر لديه بعض المعدات مثل الطابعة والأوراق، ما سمح له بتوزيعها مجانا، لكنه تعجب كثيرا للأمر حين أحدثت ضجة كبيرة في صفوف أساتذة وموظفي سلك التعليم، وطالب هؤلاء بالمزيد من النسخ بالنظر لجمال الخط وحسن التنسيق والمظهر.يقول: “هذه السمعة الطيبة جعلتني المكلف بكتابة الامتحانات الدراسية والمهنية في كل سنة، ورغم أن إخوتي كانوا يمتحنون هم كذلك في نفس الامتحانات التي كنت أكتبها لصالح ديوان الامتحانات أيام كان الأستاذ صالح جنيدي مديرا للديوان، لكني لم أمنحهم أي معلومة طيلة مشواري، في حين تزيد ثقتي وراحتي أثناء توزيع الأوراق على الطلبة، حيث تعلو وجوه الممتحن راحة نفسية من وضوح الخط ورونقه، مع كلمات واضحة ومفهومة للجميع”.المصحف الجزائريفريد من نوعهويتابع عبد الوهاب مسترسلا في رواية مشواره مع الخط العربي بالقول: “بعد 7 سنوات من ذلك وأثناء عرضي لبعض لوحاتي في المهرجان الدولي للخط العربي الذي يقام كل سنة بدار الإمام في العاصمة، اطلع الوزير غلام الله على كتابتي للمصحف بالخط العربي المعروف لدى المشارقة والجزيرة العربية، وناداني الوزير وقال لي: “لماذا أنتم الجزائريون تقلدون الغير دائما، لماذا لا تكتب بالخط المغاربي الأصيل الذي ننتمي إليه؟”، فرحبت بالفكرة وبدأت أدرس الخط الكوفي المغربي والليبي والتونسي والفروق بينها.في بداية المشروع، كتب عبد الوهاب 10 صفحات من القرآن على أساس التدريب، ورغم أنه حافظ للقرآن، إلا أنه لا يتهاون إطلاقا في العودة الى المصحف للتأكد من صحة ما يخطه، إلى أن تمكن بفضل الله تعالى من إكمال كتابة المصحف الشريف في 180 صفحة خاصة بالمصحف من الحجم الكبير و604 صفحات خاصة بالمصحف الصغير. والجديد في هذا المصحف أن لكل ربع حزب زخرفته الخاصة، ومجموع الوحدات الزخرفية وصل إلى 8 وحدات.لم أقبض سنتيما واحدا من الشؤون الدينيةميزة هذا المصحف الذي تم عرضه في دار الإمام بالجزائر العاصمة سنة 2009، أنه خال من الحروف المركبة، حيث يتمكن المبتدئ في القراءة خاصة كبار السن الذين يتلقون دروس محو الأمية، من قراءته بكل سهولة، زيادة على جاذبيته ورونقه، في حين يبقى المؤسف في كل هذا هو “عدم اهتمام وزير الشؤون الدينية بطبع هذه النسخة الجديدة وتوزيعها في المساجد تعزيزا للهوية الإسلامية الجزائرية. فرغم أنه من كلفني بكتابة هذا المصحف، إلا أنه لم يسأل عنه منذ 4 سنوات كاملة”.ولم يتحصل عبد الوهاب على أي سنتيم نظير مجهوداته، حيث كان يذهب كل مرة إلى المهرجان الدولي لحفظ القرآن الكريم، ويلبي دعوة وزارة الشؤون الدينية، ويقوم بكراء سيارة لحمل لوحاته على نفقته الخاصة وهناك من اللوحات ما تحطم وتمزق دون أن يلتفت أي أحد إليه، في حين هناك من الأجانب من يأخذ آلاف الدولارات مقابل عروضه “ولولا أن الخط يجري في دمي لتوقفت عن الكتابة لأنه بصراحة جلب لي القلق والأمراض”.اختطاف في متحف رمسيس بالقاهرةويروي عبد الوهاب ذكرياته مع السفر المتواصل إلى مصر أثناء عطلته السنوية، حيث كان يعشق التجول في الأحياء القديمة والتركيز على الخطوط العربية التي كانت على جدران المساجد والمكتبات القديمة بالقاهرة، حيث يقول: “التقيت مع الممثل الشهير محمود ياسين في شارع “محرم بيك” سنة 1984، وهو شارع يتواجد فيه الخطاطون من جميع أنحاء مصر. ذهبت إلى شخص يدعى جاب الله سيدهم وهو خطاط معروف، عمل أكثر من 30 سنة في إذاعة لندن الدولية، وبينما أنا جالس معه أتعلم وأكتب، دخل محمود ياسين وطلب منه كتابة جينيريك لفيلم “جلسة سرية”، حيث كان جينيريك كل الأفلام يكتب باليد، فتعرفت إليه وصارت بيننا صداقة. بعدها ذهبت إلى “الأسبكية” أو ميدان التحرير في الوقت الحالي من أجل تسجيل دخولي، ثم ذهبت فيما بعد إلى متحف رمسيس، حيث خطفني اثنان من الشرطة ووضعوا فوق رأسي غطاء أسود يمنعني من الرؤية، ووجدت نفسي فجأة في غرفة التحقيق”.ويذكر عبد الوهاب فصول تلك الجلسة غير المتوقعة، حيث يروي: “خاطبني أحدهم: من أنت؟ فأجبت كل وثائقي لديكم، جواز السفر، رخصة القيادة، وحتى تصريح الإجازة السنوي. ثم قال: كل أوراقك مزورة، أنت جاسوس فلسطيني وجئت لتقوم بعملية إرهابية في مصر. قلت: أنا لست جاسوسا بل أستاذ للرسم في الجزائر ولا علاقة لي بالسياسة. قالوا لي: من تعرف في مصر؟ فقلت: أعرف محمود ياسين الممثل، وكذا جاب الله سيدهم الخطاط في محرم بيك؟ اعتقلت لساعات عديدة، وكان المحققون يكررون علي الأسئلة في كل مرة وفي الأخير أطلقوا سراحي، فتوجهت مباشرة إلى المطار ولم أعد إلى مصر إلى غاية اليوم”.أكتب 20 ساعةمن دون توقفيقول عبد الوهاب إن برامج الإعلام الآلي ساعدت كثيرا في كتابة الخط، غير أنها أخلطت الكثير من الخطوط ببعضها البعض، ما أفقدها روح الخط الأصيل، لذا فهناك تراكيب يستحيل قراءتها، فالخطاط الحقيقي يجد راحة عجيبة أثناء الكتابة، فأنا مثلا أكتب لمدة 20 ساعة من دون توقف ومن دون أكل أو شرب، ولا أحس بشيء من حولي إلى حد التصوف. غير أن حلمي الكبير هو أن أتحصل على ورشتي الخاصة لأضع فيها أعمالي وأطور مهاراتي.. لقد منحني الوالي عبد القادر زوخ محلا، لكنه لا يصلح لأي شيء، وطلبت استبداله بآخر يليق بعرض 180 لوحة بها كتابات قرآنية، زيادة على توريث هذه الحرفة للأجيال القادمة،.وتعجب عبد الوهاب من القيمة التي يحظى بها الخطاطون في البلدان العربية عكس الجزائر، خاصة أن الخطاط كان يعتبر من حاشية الملك أيام الخلافة الإسلامية، لأنه يخط كل أوراق الدولة. ومن بين الذين تربطهم به علاقة وطيدة، الخطاط جليل رسولي الذي يكتب النقود الإيرانية، فيصل عاشور من الأردن وسليمان برك من تركيا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات