+ -

 من رأى معلّمنا هذا المساء على قارعة الطريق ينقل خطواته الوئيدة شارد الذهن، يحسبه شاعرا متصوفا، فهو لا يلبس غير جبّته الصوفية ليرقّع لغته القديمة بثمن بخس، ولا يقضي دهره إلا صائما، ولا يمكث الدينار في جيبه إلا بضعة أيام، ربما يكون هذا الدينار قد أحسّ بالغربة والوحشة في هذا الجيب المقفر، فراح يسعى حيث رفاقه يتزاحمون على جيوب المفسدين.في كل لحظة من لحظات حياته البائسة يرحل معلمنا إلى شباك القدر بعينين زائغتين، فلا شباك يفتح، ولا دينار يبتسم، فيعود من حيث كتب عليه الرحيل في زمن القهر يجر وراءه حزمة من أوجاع المدينة.. هناك يرقع حذاءه القديم، ثم يواصل السير على هامش مدينته الحالمة.   لقد صبر معلّمنا نفسه على الفقر الجميل، حتى قيل له: أفق من سباتك العميق، خزائن البلد أفلسها لصوص القبيلة، لو كنت شاطرا مثلنا لأخذت حصتك من الغنيمة، وخرجت مع المتسلّلين في غبش الظلام لتعيش هناك ما تبقى من حياتك الضائعة في جنة الفردوس، زمن السلب والنهب لن يعود مرة أخرى إلى قبيلتك، وسوف يحاسبك ضميرك على ما فرطت في حق هذا الجيب الذي أرهقته في سنواتك العجاف بهذه الأقلام.. لقد سئم هذا الدينار جيبك الذي لم يكن يغشاه سوى غبار الطباشير، أليس من حقه أن يفرّ بجلده من هذا الجو الخانق؟  لقد جاءنا دينارك هذا الصباح يركض مذعورا، أليس من النخوة أن نفتح له أبواب جنتنا، ونرحب به ونكرم مثواه؟ لا تخشى عليه من الحمى، لن يصاب بيننا بالزكام.. حياتنا كلها ربيع.. جيوبنا معطرة بورود حدائقه المنعشة، على بساط خمرتنا النواسية سوف يرقص دينارك نشوان يتلو شعرك المليح في زمن الصعلكة.. دع الفضيلة تذهب إلى الجحيم.. دس بقدميك على هذه الوطنية الزائفة، وعش معنا يوما واحدا، قد يكون ذكرى جميلة في حياتك، عندما تجتر ذكرياتك على عتبات المعاش، نحن شرفاء مدينتك الفاضلة نخشى أن تموت فقيرا وتدفن بجوار الحلاج، وليس في جيبك المرقع دينار يشفع لك عند ربك، لقد رفضت مصافحتنا من أجل وطن لم يؤمن لك سوى الضياع في أزقة المدينة، عش كما يحلو لك في حضن هذا الوطن المزعوم، ولا تبك دينارك إن وجدته يوما في الطابور ينتظر الدخول متلهفا إلى غرفتنا الحمراء.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات