من ينتهي من قراءة “رسالة الغفران” ليلا يصعب عليه أن يأوي إلى فراش النوم دون أن تطارده أشباح الشعراء الذي شغلوا منامات كاتبها أبو العلاء المعري، لذا حرصت على قراءتها صباحا. لكن حرصى ذهب سدى، فلم يمنع الشعراء الذين التقى بهم خيال المعري، سواء في الجنة أو النار، وناقشهم في أشعارهم، مثل زهير بن أبي سلمى والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني ولبيد بن أبي ربيعة وحسان بن ثابت والشنفرى وامرؤ القيس وبشار بن برد، من السيطرة على أحلامي. فحاولت أن أفلت من قبضتهم بإضافة بعض الشعراء المعاصرين، مثل: مفدي زكريا ومحمد العيد آل خليفة ونزار قباني ومعروف الرصافي ومحمود درويش وغيرهم، إلى قائمة من شملتهم رسالة الغفران، ولم أفلح. وأحسست أن المعري كان يسترق السمع إلى بعض الأبيات من شعرهم التي كنت أرددها، ويضحك. وهو نادرا ما يفعل ذلك، كما يُروى عنه. فطلبت منه المساعدة ورفض قائلا: لا نية لي في إصدار طبعة مُزيّدة لرسالة الغفران. فاعتقدت أن رفضه ينم عن تَوَجُّسه من أن يفتح باب السؤال عن منزلته هو شخصيا في رسالته، فهل يكون ضمن أهل الجنة أو النار، وهو السبب الأرجح الذي جعله يحجم عن إدراج معاصريه من الشعراء في رسالته هذه. لكنه فاجأني بقوله إنه غاضب على أبناء جلدته الذين كادوا يتهمونه باختلاس “الكوميديا الإلهية” للشاعر الإيطالي دانتي! وأفصح عن غيظه بالقول: لقد حز في نفسي أن الناقد الأصيل والفذ “عبد الفتاح كيليطو”، ذكر في كتابه الموسوم “أبو العلاء المعري أو متاهات القول”: “إننا لم نعد قادرين على قراءة رسالة الغفران بمعزل عن الكوميديا”. فما القصد من هذا القول الغريب؟ هل يعني أن أبناء جيلي من الشعراء والكتاب والرواة والخطاطين، وطلاب العلم لم يفهموا ما تضمنته رسالة الغفران، وكان عليهم الانتظار لمدة تزيد عن القرنين حتى يصدر دانتي “كوميدياته الإلهية”؟ ثم ماذا جاء به “دانتي” هذا حتى تُفهم به رسالتي؟ وأردف قائلا: حقيقة لا يمكن أن ننكر أنه قدم ملحمة شعرية تطير بأجنحة المجاز إلى الآخرة. لكنها ظلت حبيسة روح دانتي التائهة والمذنبة التي تمجد فلسفة القرون الوسطى، كما فهمتها الكنيسة الكاثوليكية. أما رسالة الغفران فإنها ساحة للخيال والحوار يتجلى فيها الفكر الحر المجادل في المسائل الدينية واللغوية والفلسفية، ويمتزج فيها الجد بالهزل بين النثر والشعر. أوقفت أبا العلاء عند هذا الحد حتى لا يغيب عني في نرجسيته، ويردد ما قاله: وإِنــي وَإِن كـنـت الْأَخـيـر زِمـانـه لَآَت بـمـا لــم تَسْتـطـعـه الأوَائـــل.وقلت له: احمد ربك فلولا المستشرق الإسباني الأب “ميجويل أسين بلاسيوس” ما قرأ أحد من أهل لغة الضاد اليوم رسالتك المذكورة. فالفضل يعود إليه لأنه أخرج رسالتك من أنقاض النسيان، فبفضله استطعت دخول موسوعتي الإسلام، والانفرساليس. فتح فاهه مندهشا، ثم تَنَهَّدَ وقال: لعل بعض مللكم شككت في إيماني فسحبت دواويني من التداول أو أن بعض المتفائلين منهم حرموا قراءة مؤلفاتي لاعتقادهم أني مفرط في التشاؤم. فقلت له وهل ما دوّنته من أشعار في “لوزمياتك” يملك من التشاؤم ما يوجد في كتاب “هكذا تكلم زردهشت” للشاعر والفيلسوف الألماني فرديك نتشه. فقاطعني قائلا: “وماذا جاء به “نتشه” هذا؟ ألم يقل: “إننا لا نعتدى على شخص ما لمجرد النيل منه أو الإضرار به، بل أيضا، من أجل الاستمتاع بالوعي بقوتنا؟ وواصل حديثه قائلا: وهذا ما ذكرته في شعري إذ أكدت أن الإنسان يظلم أخاه الإنسان في سبيل أمر تافه. ولا سبب لذلك سوى التلذذ بقهر الآخر. هذا لا يعني أني اتهمه بانتحال فلسفتي لأنه يؤمن بالإنسان الأعلى الذي يقول عنه إنه إنسان قوي التفكير والمبدأ والجسم. إنسان محارب وذكي، والأهم من هذا أنه شجاع ومخاطر. وأرى في هذا القول تمجيدا للقوة والسلطة والغطرسة التي أؤمن بأنها مصدر التشاؤم. لم أستطع أن أقاطعه فاسترسل في الحديث قائلا: أحمد الله أن تشاؤمي لم يقدني إلى الجنون كما فعل بــ«نتشه”. وكل ما فعلي بي أنه زاد في عزلتي عن الناس فبقيت رهن المحبسين، وجعلني زاهدا في الحياة. وقد قلت في هذا الباب ما يلي:تعب كلها الحيـــــاة فما أعجـب إلا مـن راغـب في ازديـــادإن حزنـا سـاعــة المــــــوت أضعاف سرور ساعـة الميلاد.فأجبته إن ما قلته من أشعار وما دوّنه “نتشه” من أفكار ليس تشاؤما مقارنة بما تنشره، اليوم، الصحف وتبثه محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون. فتناهى صوته إلى سمعي يقول: لقد أصبحتم مطية التشاؤم لأنكم لا تقرأون.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات