38serv
حمل البندقية كما حمل آلة تصويره للدفاع عن مشروع شعب يتحرر، رافق كبار من صنعوا الثورة من أمثال الراحل هواري بومدين، العقيد بوصوف وغيرهم، رصد ودوّن بالصوره لذاكرة التاريخ، أحداث الثورة ونشاطها، صنفه الاستعمار في خانقة أخطر عناصر جيش التحرير، لما قدمه من صور وروبورتاجات فوتوغرافية عرّى من خلالها حقيقة فرنسا الاستعمارية. كان أول مصور للثورة وأنشأ مصلحة التصوير والسينماتورغراف لجيش التحرير، عمل مع العقيد بوصوف بمصلحة الاستعلامات والعلاقات، عاش في صمت أثناء الثورة وبعدها، وافته المنية سنة 2008 تاركا وراءه الكثير من التساؤلات حتى بالنسبة لعائلته.. هو المجاهد سمار قدور بن محمد المعروف بسي قدور، الذي عاش عظيما ومات غريبا. كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء عندما انتقلنا رفقة سمار الطاهر إلى بيت عائلة المرحوم ”سي قدور” بشارع الإخوة حسين بمدينة حجوط في تيبازة، حيث كان في استقبالنا كلا من أرملته الحاجة هاشم مريم زوجة سمار وابنها محمد، وكانت المناسبة الذكرى السادسة لوفاة الرجل الفذّ الذي عايش العمل الحربي الاستخباراتي رفقة العقيد عبد الحفيظ بوصوف والراحل هواري بومدين وآخرين.. هناك وببيت الضيوف اكتفت العائلة بتعليق صورة مجسدة لمعركة ”خرق النطاح”، قدمت للعائلة كشهادة من المتحف المركزي للجيش تقديرا وعرفانا على العمل الفذ الذي قدّمه الرجل.من عامل في مزارع العنب إلى أول مصور لقيادة أركان الجيشيعود بنا ابن المرحوم، الطاهر سمار، إلى بدايات كفاح والده ضد الامبريالية وكفاحه إلى جانب كبار الشخصيات الثورية، ليستدل بصورة يظهر فيها ”سي قدور”، وهو يحمل آلته للتصوير يتقدم صفوفا من جيش التحرير التقطت سنة 1959، على الحدود الجزائرية المغربية بالولاية الخامسة، وأخرى مع الرائد مستغانمي، بقاعدة بن مهيدي بحدود الولاية الخامسة، وصورة أخرى يظهر فيها متكئا إلى جانب العقيد بوصوف، بالإضافة إلى صور يظهر فيها ”سي قدور” يتقدم ويأخذ صورا لجمع من قيادات الثورة، على رأسهم العقيد هواري بومدين والعقيد بوصوف، في زيارة ميدانية لأحد مراكز الجيش بالحدود المغربية الجزائرية سنة 1958، ويعود بنا الابن إلى البدايات الأولى للرحلة النضال، فيقول إن والده انتقل من مدينة مراد بأعالي حجوط إلى تونس سنة 1946 بحثا عن رغيف الخبز، لتنقله الأقدار من مزارع العنب إلى مهنة التصوير الفوتوغرافي والسينماتوغرافي التي أخذها على يد صحفيين إيطاليين، كانوا بصدد إنجاز روبورتاجات تصويرية عن الفلاحة في تونس. ويضيف ”انتقل والدي سنة 1951 إلى مدينة الرباط المغربية، حيث فتح محلا للتصوير أطلق عليه اسم ”المقاومة” ليوظفه في النضال السياسي، قبل أن ينضم بعد 3 سنوات إلى المحافظة السياسية بالرباط ووجدة التابعة لقيادة أركان جيش التحرير الوطني، رفقة المجاهدين عز الدين وعمار بن محجوب”. وبعد سنة يقول ”فتح محلا آخر للتصوير بمدينة وجدة المغربية أسماه ”صورة المغرب العربي”، وفي السنة ذاتها يتصل به العقيد بوداود، المدعو سي منصور، مسؤول مركز الجيش بقاعدة الخميسات بالمغرب، والمجاهد سي العربي وشقيقه ابراهيم، للالتحاق بالثورة فانضم إلى جيش التحرير وشرع في تصوير الجنود الفرنسيين الأسرى. قبل أن ينضم رسميا إلى جيش التحرير الوطني موظفا بمصلحة التصوير الفوتوغرافي والسينماتوغرافي التي أنشأها لصالح الجيش والثورة والجبهة، وفي هذه السنة بالذات طلب منه بإلحاح كبير النظام السياسي بوجدة، وبالخصوص من العقيد عبد الحفيظ بوصوف، أن يكون معهم بحكم مهنته وتخصصه في ميدان التصوير والروبورتاج السينماتوغرافي.أمين سر الثورة ورفيق رجل المخابرات الجزائريتعود بنا أرملة المرحوم، الحاجة هاشم مريم إلى 57 سنة مضت، وتأخذ في عصر ذاكرتها لقلب أوراق التاريخ، وضبطها على أول محطة لها مع المرحوم، حيث أكدت أنها تعرفت عليه بالناحية التاريخية الخامسة عن طريق عمها موسى هاشم. ومما تذكره أن المرحوم كان يعرض أفلاما سينماتوغرافية عن الثورة، كان يلتقطها في الميدان، غير أن ذلك ظاهر ما كان يبديه، ليخفي وراءه أسرارا كانت حملا كبيرا ظلت سرا حتى بعد الاستقلال، ففي فترة الستة عقود التي قضتها معه، تقول العمة مريم ”أدركت أن الرجل كان يحمل مهاما سرية خلال الثورة أبقاها سرا، وأبقته أسيرا لها حتى بعد الاستقلال”.ويعود الطاهر، ابن المرحوم، لأرشيف الوالد، ليؤكد أن سي قدور جمع في مسيرته النضالية بين العمل الاستعلام العسكري والسياسي، وكشف فظاعة الاستعمار من خلال صوره التي جالت أصقاع العالم، وحرّكت الرأي العام العالمي، من خلال كفاحه إلى جانب شخصيات ثورية بارزة كالعقيد بوصوف عبد الحفيظ المدعو سي مبروك، والعقيد هواري بومدين، والمجاهد عبدالعزيز بوتفليقة، والعقيد العربي بن مهيدي، والعقيد لطفي، والعقيد عثمان، والرائد جابر، والرائد لعوج محمد المدعو مبارك فراج، والرائد قايد أحمد المدعو سي سليمان، والعقيد بوداود المدعو سي منصور، والعقيد علاهم محمد المدعو عنتر، والرائد مستغانمي رشيد، والرائد جلول ملايكة، والرائد ناصر، والمجاهد طايبي العربي، والمجاهد قدادرة عبد المجيد، والمجاهد مطهريو، والمجاهد الحاج هاشم موسى، والمجاهد شريف بلقاسم المدعو جمال، والمجاهد أحمد مدغري، والعقيد محمود ورتسي.وفي السنة نفسها، أي 1956، أسس العقيد بوصوف مصلحة الاستعلامات والعلاقات بمدينة وجدة، وكلف المجاهد سمار قدور بن محمد بعدة مهام، منها تصوير فوتوغرافي وسينماتوغرافي لكل مراكز التدريب الموجودة بالحدود المغربية الجزائرية مركز الكبداني والزغنغن والقيام بمهمة الاستعلامات على كل جنود المنطقة والزيارات التفقدية إلى مراكز صناعة السلاح التابعة لمصلحة الاستعلامات والعلاقات بوجدة والرباط، رفقة العقيد بومدين والعقيد بوصوف ومصالح ”المالغ” فيما بعد، تحت قيادة العقيد عبد الحفيظ بوصوف، وعمل بالموازاة على تكوين مجاهدين في مهنة التصوير ووظفهم بمصلحته.وتشير مذكرات ”سي قدور” إلى أنه وإلى نهاية 1957 عقد اجتماعات عديدة مع قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، بمعية العقيد هواري بومدين والعقيد بوصوف والمجاهد سي لحسن والمجاهد الحاج موسى، وأخرى بـ«منزل دار الحبيب دردق” بوجدة المغربية، حيث كانت ترسم الخطوط العريضة للثورة من بينها مهام سمار قدور داخل الجيش والجبهة، الذي بات فيما بعد محل ثقة من قِبل قيادة أركان الجيش، لتكون أكثر المناطق التي شغلها بداية من سنة 1956، قاعدة الخميسات بالمغرب والمنطقة الأولى بتلمسان وما جاورها كالسبدو ومغنية وجبال فلوسن، ثم المنطقة الثامنة ببشار، المشرية، عين الصفراء والبيض وكذا القاعدة رقم 15 وقاعدة بن مهيدي، قبل أن ينتقل سنة 1958 إلى مركز بن مهيدي تحت إشراف قيادة الحدود رفقة الرائد رشيد مستغانمي والرائد ناصر، والنقيب شاهد محمد المدعو سي عبد الرحمان، والملازم الثاني ميلود حبيبي وعلالي قويدر المدعو سي يوب، والمجاهد صحراوي مختار المدعو الهواري وصالح النهاري، تخللت ذلك زيارات رسمية في إطار مهامه لمقابلة فرحات عباس الرئيس الأسبق للحكومة الجزائرية المؤقتة بالمغرب وزيارة الملك محمد الخامس.المهمة مزدوجة إلى المنطقة الثامنة والإصابة المشؤومةخاض المرحوم قدور سمار سنة 1960 مهمة سرية مزدوجة قادته إلى المنطقة الثامنة بجبال ببشار وضواحيها مشيا، كانت الأولى للتحقيق والتحري حول مقتل العقيد لطفي ومساعده الرائد مبارك فراج اللذين وافتهما المنية يوم 27 مارس 1960، والثانية إحصاء عدد الجنود الذين استشهدوا من الذين عاشوا، بعد قصف الاستعمار الفرنسي للفيلق رقم 01 بنيران النابالم في شهر ماي 1960، ليلتحق به الرائد ناصر بعد ثلاثة أشهر، ويطلب منه العودة بطلب من قيادة أركان جيش التحرير، ليواصل المرحوم مهمته رفقة أربعة جنود وضابط احتياطي للالتحاق بالفيلق رقم 3 ”بني أزمير” للمنطقة الثامنة، ويشاركوا في الهجوم على مركز ”بني ونيف” الذي شكّل حصنا لجنود الاستعمار الفرنسي.وفي 14 جويلية 1960 بجبل بني أزمير، أصيب المرحوم المجاهد سي قدور في كمين استهدفه بمعية رئيس المركز الأخ جميلي ورئيس الفيلق رقم 03 المدعو شيهوب والمحافظ السياسي بوثلجة، وفي تعليقه على هذه الحادثة يوضح الطاهر سمار ”شعر المرحوم يومها أنه مستهدف من خلال قصف مكان تواجده بأربع قذائف متتالية ومتابعة بطائرة ذات رشاشة، وأصيب على مستوى الرأس والفخذ الأيمن والظهر من جراء كثافة القصف، قبل أن يدخل مدينة وجدة المغربية للعلاج ويقدّم بعدها تقريرا مفصلا للقيادة عن الوضع في ”المنطقة الثامنة” مدعوما بصور وأفلام عن المعركة”.مصنّف خطرتشير مذكرات سي قدور إلى دخوله المستشفى الدار البيضاء بالمغرب للعلاج لمدة 10 أيام في 29 سبتمبر سنة 1960، ليستدعي بعدها من قِبل العقيد هواري بومدين للمرة الثانية، لاختيار أحد رجالاته لتسيير مصلحة التصوير مؤقتا، حيث ساعده المجاهد الطاهر فوضيل المدعو رشيد، الذي أرسله إلى المنطقة الثامنة لاستكمال مهمة التحقيق التي بدأها فيما تكفل هو بإرسال التقارير للقيادة العامة لجيش التحرير الوطني.وفي مارس دخل المرحوم مصلحة الجراحة بمستشفى موريس لوستو بالمغرب، ليغادرها في أفريل 1961، حيث رافق العقيد هواري بومدين والعقيد عثمان في مهمة تفتيشية للحدود الجزائرية المغربية، وإرسال تقارير سرية تتعلق باستكشاف مواقع العدو، وسبّب نشاطه قلقا كبيرا للسلطات الفرنسية، التي باشرت البحث عنه وأشهرت على مستوى بعض الجرائد الفرنسية، تصنّفه فيها من بين أخطر عناصر جيش وجبهة التحرير الوطني، التي يستوجب القضاء عليها، خاصة ما قام به من تصوير وروبورتاج فوتوغرافي عن الأسلاك الشائكة لخط شارل وموريس، وفي جويلية من السنة نفسها يدخل المستشفى للمرة الثالثة بمركز بن مهيدي بالمغرب، قبل أن تصدر اللجنة الطبية لجيش التحرير الوطني في شهر نوفمبر من السنة نفسها قرار إعفائه من مهامه، ليغادر في شهر جانفي سنة 1962 مصلحة التصوير والسينماتوغراف للجيش نهائيا، ويتقلّد منصبا آخر كمسؤول ومندوب لقيادة أركان جيش التحرير بالحدود إلى غاية الاستقلال.مهام عابرة للحدود ووطنية لا تعترف بالمسافاتتذيب شهادة المجاهد بالولاية الرابعة، مرسلي محمد المدعو محمد المقيم بمراد، أي شك في أن مهام ”سي قدور” كانت عابرة للحدود، فالرجل الذي بلغ من الكبر عتيا، لم يجد صعوبة في العودة بنا إلى سنة 1957 حين التقى ”قدور سمار بالحدود الجزائرية التونسية، عندما كان الأخير رفقة سبعة جنود يخطون طريق العودة من تونس للدخول التراب الوطني، بعد اجتيازهم لخط موريس، رغم الحصار الذي ضرب عليهم من قِبل المستعمر. ويذكر المجاهد مرسلي، في شهادته، بأن سي قدور كان مميزا عن غيره بحمله لآلة تصوير، بالإضافة إلى سلاحه الرشاش. وينتقل المجاهد محمد مرسلي بنا إلى سنة 1963، تاريخ لقائه بالمجاهد سي قدور ثانية بمدينة مراد، ليكون شاهدا على أن الرجل ظلّ وفيا لوطنه، وعمل كرجل للأمن إسهاما في اسقرار البلاد.رجل الصورة.. المعلومة والرشاششكّلت شخصية سي قدور إضافة حقيقية للثورة، ولعبت فيها أدوارا مفصلية، وهنا يصف المجاهد صحراوي مختار المدعو سي الهواري، الذي اجتمع بالمرحوم ”سي قدور” في قيادة الحدود بالناحية الخامسة بين 1956 و1958، بـ«الرجل بالمتمرّس في السياسة”، ويكشف عدة حقائق عن شخصية ”سي قدور”، الذي يقول عنه إنه كان يُسقط العدو في أرض المعركة، ويأخذ صورا عمّا يدور فيها، مشيرا إلى أن فترة الثلاث سنوات التي جمعته به، أكدت حقيقة لا غبار عليها، هي أن التحاق الرجل بالنضال العسكري والسياسي كان خيارا وطنيا لا غبار عليه ”لقد كان مثالا في الإقدام وكذلك في السياسة، ومتواصلا دائما بقيادة أركان جيش التحرير مع الرائد هواري بومدين والرائد المرحوم آيت أحمد المدعو سي سليمان بالولاية الخامسة”. ويذكر المجاهد صحراوي كيف أن مهام قدور سمار كانت تتّسم بالسرية ”كانت مهامه مهام قائد في جيش التحرير، يصور العمليات العسكرية ويشارك فيها، يأخذ صورا لمراكز المراقبة الحدودية للعدو، حتى يسهل تنفيذ عمليات المجاهدين عليها”، ويردف ”عمل إلى جانب بوصوف، وكانت مهامه أكثر من عمل استخباراتي، كان يقدّم معلومات استخباراتية مصورة ثم يرسل التقارير للقيادة العامة لأركان جيش التحرير، التي تصدر بناء عليها أوامرها، لقد قدّم خدمات كبيرة للثورة”. ويسترسل رفيق سي قدور في قيادة الحدود ”كان يتحوّل من الحدود المغربية إلى تونس أين كان سي بوصوف، حيث كان يبلغه بمعلومات غاية في السرية”.وفي تعليقه عن المعلومة التي دوّنها ”سي قدور”، في أرشيفه النضالي حول التحقيق في وفاة العقيد لطفي، يؤكد صحراوي المختار أن مهمة التحقيق في وفاة العقيد لطفي ومساعده لعوج محمد المدعو مبارك فراج أحيطت بسرية كبيرة، ليختم بالقول ”أدرك أن وفاتهما مشكوك فيها، وكنت على علم بأن سي قدور تلقّى أوامر من القيادة العامة لأركان جيش التحرير للتحقيق في القضية. هو لم يبح بها للناس لكن على مستوانا كنا ندرك ذلك”.ردّ الاعتباريكشف الطاهر سمار أن والده لم تسعفه الظروف لكتابة مذكراته أثناء الثورة، حيث كان يقدم على ذلك ثم يتراجع، غير أن الأكيد، حسبه، أن والده وقبل مغادرة تراب الولاية الخامسة التاريخية، قد ترك للقيادة أرشيفا كبيرا، وهاما خلّد به بصمات أعماله وما أنجزته أنامله من تاريخ يروي حقائق الثورة لمدة تفوق الأكثر من ثمانية سنوات، تعبّر عن عصارة جهد وكفاح الرجل الذي ظل صامتا ومحافظا على الأمانة وسر مهنته، ليستمر نضاله إلى ما بعد الاستقلال، حيث فتح محلا للتصوير بمدينة حجوط سماه ”صورة المجاهد”، وبقي وفيا لمهنته ووطنه ولرفقاء دربه، وشغل كمصور بوكالة الأنباء الجزائرية، وعمل كعارض للأفلام السينمائية، وهو الذي رفض يوما عرض الرئيس بومدين بتقليده منصبا عاليا في الدولة وفضّل البقاء إلى جانب آلة تصويره. وعائلته، التي تلقّت رسالة تعزية من الرئيس بوتفليقة بمناسبة وفاته في 19 فيفري 2008 عن عمر ناهز 95 سنة، تطالب بعد مرور خمسينية الاستقلال بردّ الاعتبار لهذه الشخصية التاريخية التي كانت أول من أسس قواعد التصوير والسينماتوغراف بقيادة أركان جيش التحرير وجبهة التحرير.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات