38serv
وأنا أتهيأ لركوب طائرة الخطوط الملكية المغربية من مطار هواري بومدين الدولي بالجزائر العاصمة إلى مدينة الدار البيضاء ومنها إلى مراكش، كنت متخمة بأفكار بعمر السجال السياسي والشحن الإعلامي المتبادل بين البلدين الجارين، الممتد لعقود. فكرت أني سأقرأ هذا في كل الوجوه عندما تطأ قدماي أرض الجيران، ولعل ما أكد فرضيتي وأنا بين السماء والأرض، كلمات عمود صحفي في إحدى الجرائد المغربية التي وضعت أمامي، تتنبأ كاتبته بقرب ربيع عربي في الجزائر، لكن وإن كانت حساباتي هذه أسقطت في الماء، بشأن مشاعر الكراهية بالنسبة للمواطنين البسطاء على الأقل، إلا أني خرجت بحقيقة واحدة “الحدود المغلقة قضية كل مغربي”.عندما يفتح المغاربة نقاشا مع ضيوفهم الجزائريين، يحفظون أسطوانة واحدة يرددونها عن ظهر قلب “أحنا خوت فرقنا السياسيون والحدود الوهمية”، قبل أن يردفوا متسائلين إن كانت هناك بوادر انفراج قريب، هي كلمات ترددت على مسامعنا أكثر من مرة، ما إن تكشف لهجتنا عن هويتنا في الأيام التي قضيناها في المغرب، على هامش المنتدى الثالث لرجال الأعمال المغاربيين بمراكش، المنعقد بين 17 و18 فيفري الجاري.الجميع لا يتأخر في الترحيب بك “أنتم جزائريون، الأقرب إلينا من بين جميع أشقائنا في المغرب العربي”، يقول مغربي رافقنا في الرحلة من الجزائر إلى المغرب، ويواصل كلامه: “لا تصدقوا ما يقال هنا وهناك، أشخاص دخلاء يحاولون التفرقة بيننا، أراهنك إن تمكنت من التفرقة بين جزائري مغناوي ومغربي من وجدة”.كلمات الترحيب رافقتنا من شابيك شرطة الحدود إلى الفندق “مرحبا بالصحافة الجزائرية”، يقول أحد موظفي شرطة الحدود المغربية، مردفا “كثيرة هي الجرائد عندكم، أعرف الكثير من العناوين، مرحبا بإخوتنا بيننا”.لا شرطة بالزي الرسميكانت مسافة العشرين دقيقة التي قطعناها بين مطار المنارة مراكش إلى فندق “غولف بلاس” ليلا، مقدمة لنكتشف معالم المدينة الجنوبية الحمراء بفنادقها الفاخرة المغربية الطراز، التي لم نصادف فيها شرطيا منذ مغادرتنا المطار، وإن لم يسمح لنا الظلام الذي أسدل ستاره على أرجائها بتبينها جيدا، إلا أن بصيص الأنوار الهادئة كان كافيا لنتأكد أنها مختلفة عن مدننا ليلا، العاصمة على الأقل، فما بالك بالمدن الجنوبية والداخلية.الوقت كان متأخرا، لا وجود لحواجز شرطة بالزي الرسمي، ولعل أكثر ما شدّ انتباهنا العدد الكبير من الدراجات النارية التي كانت تجوب شوارع المدينة في ذلك الوقت، وعلى متنها فتيات محجبات، وأزواج مرفوقين بأبنائهم، مشهد يندر أن نراه في الجزائر، وإن حدث ورأيناه فهو حدث عرضي شاذ. يقول أحد الذين رافقوني في الرحلة، زار المغرب أكثر من مرة “هنا لا فرق بين المرأة والرجل، تعمل نفس ساعات العمل وتعود في وقت متأخر على متن دراجتها النارية ولا أحد يتجرأ على الاقتراب منها مثلها مثل السياح”.“كيف هي الأحوال عندكم؟” يسألني مغربي من المشاركين في المنتدى على مائدة الإفطار، قبل أن يردف “وماذا عن الانتخابات يقال إنها محسومة”. أجبته أن الوضع مبهم (الروبورتاج أنجز قبل إعلان ترشح الرئيس)، ليجيبني مبتسما “لكن يقال إن النتائج محسومة”، لأجيب أن الوضع نفسه في العالم العربي.. ونحن نحاول فقط أن نكون الاستثناء.وإن كان مبرر وجودي في المغرب تغطية فعاليات منتدى اقتصادي بالدرجة الأولى، إلا أن السياسة ألقت بظلالها على الحدث، لا يمر حديث جانبي مع أي مغربي دون السؤال عن العهدة الرابعة وقضية الحدود المغلقة بالتحديد.يقول زميل مغربي ما إن عرف أني جزائرية بعد أن أغدق علي بعبارة الترحيب باسم الجيرة “الله يهديهم السياسيين في البلدين.. كاين شي الجرانات اللي راهم يخلطو بيناتنا، الغاز يمر علينا دون أن نستفيد منه، وفلاحتنا تباع بأثمان بخسة، الأمر كان يمكن أن يكون مختلفا لو كانت الحدود مفتوحة سنستفيد ونفيد”. قطعت عليه الحديث دون الكثير من الكلام، قلت “فلنترك السياسية للسياسيين” ولست أدري إن كانت إجابتي قد أقنعته.الشاب خالد همزة وصل بينناأسدل الستار على فعاليات المنتدى، لم يتبق الكثير من الوقت لاكتشاف معالم المدينة التي أسس المرابطون نواتها الأولى العام 1070 ميلادي، فرحلة العودة كانت في اليوم الموالي في وقت مبكر، لم يكن ممكنا أن نتجول في كل المدينة التي تستقطب سنويا أعدادا كبيرة من السياح القادمين من أصقاع الدنيا، من أوروبا إلى أمريكا اللاتينة.فالمدينة التي تتوزع قصورها مغاربية الطراز على مد البصر، يمتلك العديد من نجوم الفن والموضة والسياسة في أوروبا إقامات دائمة بها، على غرار الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، امبراطور الموضة ايف سان لوران، والكوميدي الفرنكو مغربي جاد المالح، كما يستقطب مهرجانها السنوي “مهرجان مراكش للضحك” الذي يشرف عليه الفرانكو مغربي جمال دبوز، آلاف المتابعين، خاصة أنه يستضيف أشهر نجوم الكوميديا في أوروبا والمغرب والجزائر أيضا، فعبد القادر السيكتور من الأسماء دائمة الحضور في المهرجان.حضور الفنانين الجزائريين في مهرجانات المغرب الوتر الذي عزف عليه الكثير من المغاربة الذين تحدثنا إليهم طيلة فترة إقامتنا. “ملك الراي همزة وصل بيننا”، تقول مغربية من الرباط، كانت من بين ضيوف الملتقى، مردفة “الشاب خالد اقتنى فيلا في مراكش و«كلله” الملك بالجنسية المغربية، الشاب بلال دائم التردد وحتى لطفي دوبل كانو وعبد القادر السيكتور، ومحمد لامين، تصوري لو لم يكن هناك مشكل الحدود، سنكون بالتأكيد بلدا واحدا”.وكأنها قرأت أفكاري وقبل أن أبادرها بالسؤال أردفت محدثتي: “نعرف أنكم في الجزائر تأثرتم بحادثة الراية الجزائرية في الدار البيضاء، لكنها فعل منعزل ولا يمثل كل الشعب المغربي، كان شابا طائشا فقط، راية الجزائر عزيزة علينا مثلما هي رايتنا”.ساحة “جامع لفنا”.. كرنفال التوابلرغم ضيق الوقت، لم يكن مطروحا أن نغادر مراكش دون أن نزور ساحة “جامع لفنا”، القلب النابض لمدينة مراكش ومحج السياح والسكان المحليين، ونقطة التقاء بين المدينة والقصبة المخزنية، وهي الساحة التي صنفتها “اليونيسكو” في قائمة التراث اللامادي.ساحة “جامع لفنا” كرنفال حقيقي مفتوح على الطبيعة، يتزاحم فيه مروّضو الأفاعي لإقناعك بمشاهدة عرضهم وأخذ صورة مع أفاعيهم، وفي الجانب الآخر يحاول مروّض القرد اقتناصك علك تجود عليه ببعض الدراهم “ اتقدموا وما تخافوش جيرانا”، يقول صاحب الأفعى، وما لبثت أن أفلت منه، ليس شحا بقدر ما هو خوف من الأفعى، حتى حاصرتني نسوة يبعن المناديل الورقية بطريقة هي أقرب إلى “التسول”.. “يرحملك الوالدة ادي عليا”. وبالحديث عن التسول، لا يمكنني أن أعدد المتسولين الذين حاصرونا في المكان، أطفال، نساء، وشيوخ يعرضون عليك الدعاء والبركة مقابل درهم واحد.هناك، يبدو الفرق شاسعا بين ساكني القصور في الجانب الآخر من المدينة السياحية وبين السكان المحليين الذين يجتهدون ليل نهار فقط من أجل أن يحصّلوا لقمة العيش. “نعمل لنعيش”، يقول سائق الحافلة، هي عبارة تختصر كل شيء. فرغم شهرة المكان، حاولت جاهدة أن أجد وجه شبه بينه وبين أحيائنا الشعبية لكن عبثا حاولت، فهناك بدا لي حقا أن الفقر يمشي على قدمين.الليل والنهار يتشابهان في هذه المكان، الحركة لا تقل إلا مع بزوغ الفجر والعمل لا يتوقف، وهو حال الخالة زهرة، هكذا عرّفت نفسها، وهي صاحبة طاولة لبيع الأطباق التقليدية، تقول “في المواسم السياحية أعمل من التاسعة صباحا إلى الرابعة من صباح اليوم الموالي، أحيانا لا أشعر بجسدي.. لكن هي خبزة لوليدات”.وأبدت محدثتنا سعادة كبيرة باستقبالنا، مؤكدة أنه لا يمر يوم دون استقبال جزائريين “أنتم منا واحنا منكم، السياسة اللي دراتها بينا”، تختم حديثها.وأنت تسير في الساحة الواسعة، لا تكفيك الساعات لتتبين كل معالمها، يجذبك رواة الأحاجي والقصص التراثية عن بطولات المرابطين في الأندلس، تشدك الراقصات الشعبيات وهن يخفين وجوهن خلف ستار، تتوقف لتستمع لرواة الحكايات الشعبية ورواد “الحلقة” لتسافر في التاريخ، تسحرك واشمات الحناء وهن يحركن أناملهن بخفة، كل هذه الفسيفساء تشعرك بـ”الدوار”، أو هذا ما شعرت به أنا على الأقل، إنه السكر دون خمرة بكل تجلياته.وما كدت أصحو من “سكرتي” حتى أعادتني إليه من جديد رائحة البخور والعنبر وخليط الأعشاب التي شدت المرافقين لي بحثا عن زيت أركان الذي تنفرد به المغرب. مثل سابقيه، ما أن عرف جنسيتنا بادرنا البائع الذي قال إن أصوله جزائرية بعبارات الترحاب “من لهجتكم عرفتكم الجيران لعزاز، المغربي جزائري والجزائري مغربي، خيروا واختاروا”.راح يعرض علينا فوائد كل عشبة وعقار، لكن لم أنصت إليه بانتباه، ربما كانت الريبة مما نسمعه من عجائزنا عن “القدرات الخارقة” لجيراننا في هذا المجال، واكتفيت بزيت أركان، لكن لم يتركنا البائع نغادر قبل أن يهدينا عطر العنبر، اعتبره عربون صداقة وأخوة، ولنعود يوما إلى أرض الجيران “في انتظار أن تستقبلونا في دياركم، لكن ليس جوا، هذا ما نتمنى”، يقول وهو يودّعنا.بعيدا عن هذه الضوضاء، توغلنا في المحلات المجاورة التي توزع عليها سياح قادمون من أصقاع الدنيا، لم نكن بحاجة إلى تقديم أنفسنا، الجميع كان يتسابق لاستقبالنا في المحلات “مع سعر خاص لأنكم جزائريون”، غير أني لم أجد اختلافا كبيرا بين ما يباع في ساحة الشهداء من أزياء تقليدية وتذكرات. صارحت أحدهم، ليجيبني الشاب الملتحي مبتسما “رغم أن الحدود مغلقة، إلا أن حركة التجارة غير متوقفة بيننا، نبيع الكثير من المنتوجات جزائرية الصنع، إن شاء الله يخلاص مشكل لحدادة ونرجعو كيما كنا بلاد وحدة”.حقيقة، لا يكاد ينتهي أي حديث مع مغربي دون العودة إلى قضية الحدود، لقد نجح نظام المخزن في جعلها قضية الجميع. “نزوروكم كي تفتحوا لحدادة”، يقول طفل لم يتجاوز العاشرة، كان رفقة والده في محل.. “فلنتركها للزمن”، أجبته.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات