اجتاحت المسلسلات التركية القنوات التلفزيونية العربية، وزاد اهتمام المشاهد العربي بها لأسباب مختلفة، بعضها معروف والبعض الآخر بحاجة إلى بحث. وقد باعت تركيا في 2011 حوالي 10500 ساعة من مسلسلاتها لـ76 دولة أجنبية، وحققت بذلك عائدا ماليا قدره 68 مليون دولار. وقد تفوقت على المسلسلات الأمريكية والمصرية في بعض الدول العربية.إن هذا النجاح الذي حققه المسلسل التركي والاحتفاء به في الخارج لا يعكس مكانته في المجتمع التركي، ولا يعبّر عن نظرة المواطن التركي له. وهذا خلافا للمسلسلات البرازيلية التي انتشرت في الخارج نتيجة النجاح الذي حققته داخل البرازيل. وهذا الأمر يستدعي التفكير في مساهمتها في تشكيل خصوصية المجتمع البرازيلي الثقافية، وكيف شاركت في انطلاقة صناعته الثقافية.بلغت الأمية في المجتمع البرازيلي 10.5 % من مجمل عدد السكان الذين يزيد سنهم على 15 سنة. وتكاد عادة القراءة تنعدم في البرازيل، حتى في أوساط الفئات الميسورة. وظلت مشاهدة الأفلام في القاعات السينمائية بعيدة عن البرازيليين الفقراء، وما أكثرهم. لذا تُعّد هذه المسلسلات المنفذ الوحيد الذي يسمح للبرازيليين بولوج الثقافة بمعناها الضيق، ويمكّنهم من الاطلاع على التراث الثقافي البرازيلي، والمتن الأدبي الذي أنتجته القامات البرازيلية الشامخة، مثل جورج أمادو وغلسيانو راموس وبرناردو غيمرايس، فرواياتهم التي اقْتبستها المسلسلات المذكورة حظيت بنسبة مشاهدة عالية.بدأ بث هذه المسلسلات في الإذاعة في الأربعينيات من القرن الماضي، فساهمت بفاعلية في انتشار هذه الوسيلة الإعلامية وفي تشكيل جمهورها. وقد استفادت في نشأتها من الكتاب اللامعين، مثل جواكين مشادو دوأسيس، ونيلسون روديغيز، الذين كانون ينشرون “الفيتون ـ Feuilleton” الذي يروي الحب المستحيل ومظاهر الفقر والمعاناة ومفارقات الحياة، في الصحف البرازيلية، في المنتصف الأول من القرن العشرين. ويمكن مقارنتهم بكتاب “الفيتون” الفرنسيين، مثل بلزاك والكسندر ديما”. وفي 1965 انتقلت هذه المسلسلات إلى التلفزيون لتغطي مساحة زمنية واسعة من برامجه، حيث تجاورت أنواعها الثلاثة في البث، والتي سميت بوقت بثها. مسلسلات السادسة بعد الزوال التي تعالج المواضيع الخفيفة، ومسلسلات الساعة السابعة ذات الطابع الكوميدي، وأخيرا مسلسلات السهرة ذات النزعة الميلودرامية التي تبث على الساعة التاسعة. ويبلغ عدد حلقات كل مسلسل حوالي 200 حلقة، ولا يتجاوزها إلا نادرا.استغلت قناة “غلوبو” التلفزيونية هذه المسلسلات لتجعل منها محركا للصناعات الثقافية في البرازيل، حيث أنشأت عشرة استوديوهات في مساحة 1.65 مليون متر مربع لإنتاج 2500 ساعة في السنة، وتجري فيها كل مراحل إنتاج هذه المسلسلات وإخراجها، ووظفت لهذا الغرض فريقا من الكتاب والسيناريست والممثلين والمخرجين والفنيين الذين لا يكفون عن العمل على مدار السنة. وبمجرد الشروع في بث بعض الحلقات من مسلسل ما تنتشر فرق البحث التابعة للقناة المذكورة، لتدرس مع كتاب السيناريو والمخرجين كيف استقبلها الجمهور، ثم تُعدل اللّحمة السردية للمسلسل حتى تتناغم مع ذوق الجمهور. وغدت هذه القناة التلفزيونية تُصَدّر مسلسلاتها إلى حوالي مائة دولة في العالم، تأتي في مقدمتها تلك الناطقة باللغة البرتغالية. وتفوقت على المسلسلات الهندية والأمريكية في بعض دول العالم!وتُعد هذه المسلسلات أفضل معبّر عن خصوصية الثقافة البرازيلية، بل إنها الأداة النشيطة التي ساهمت في صقل هوية الشعب البرازيلي المكون من مزيج من الأعراق: السكان الأصليون، والبيض القادمون مع المستعمر البرتغالي، والزنوج الذين جلبوا كعبيد من إفريقيا الغربية. إنه شعب لا يوحده دين ولا لغة ماعدا لغة المستعمر. فالمسلسلات المذكورة عملت على تشكيل الذاكرة الجمعية البرازيلية باسترجاع الأحداث التاريخية البارزة وإحياء رموزها الفاعلة في المخيال الجمعي. قد يقول البعض إن هذه المسلسلات تمحو الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، لتنتج خطابا إيديولوجيا يكشف تفكيكه عن توجه امتثالي يسعى إلى الحفاظ على النظام القائم بإعادة إنتاج صوره النمطية: التسليم بالتفاوت الاجتماعي، والإيمان بانتصار للخير على الشر. بيد أن هذا الخطاب لم يمنعها من أن تتحول إلى رابط اجتماعي يجمع البرازيليين ليناقشوا القضايا والمشاكل التي ترويها ويعيشونها، مثل الإدمان على المخدرات والكحول، والإعاقة الذهنية، والبنات الأمهات، والرشوة والفساد، والطلاق، والأمراض المزمنة مثل الزهايمر، والسرطان. فبعد بث المسلسل التلفزيوني الموسوم “العائلة”، على سبيل المثال، ازداد عدد المتبرعين بالنخاع الشوكي للمصابين بسرطان الدم بـــنسبة 100 %!فهل يمكن أن ننتظر من القنوات التلفزيونية الجزائرية الخاصة أن تستلهم الدرس من المسلسلات البرازيلية وتعي أن التلفزيون مؤسسة اجتماعية وثقافية، وليس حزبا سياسيا أو مكبر صوت الجعجعة السياسية والإثارة؟ وهل من أمل في أن تمنح المشاهد الفرصة لبلوغ الأدب الجزائري، وألا تستصغر عقله ببث مجموعة من الصور الشاحبة والهزيلة التي تفرط في الوعظ أو التنديد؟
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات