في مكتبه بمسجد باريس الكبير بالدائرة الخامسة للعاصمة الفرنسية، أجاب العميد شمس الدين حفيز على أسئلة "الخبر" بقلب مفتوح ودون تحفظ، معرجا على كل ما يخص هذا الصرح الديني الكبير الذي ظلت تربطه علاقة خاصة بالجزائر.. تحدث عن الجالية الجزائرية وما تواجهه من حملات تشويه وتنكر لإسهاماتها، وعن المخارج الممكنة للأزمة بين البلدين، وعن لقاءاته ومكالماته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير داخليته المهووس بالجزائر برونو روتايو.. وعن الإسلاموفوبيا والتعتيم الإعلامي الكبير الذي يطالها في فرنسا.. وعن الجرائم الفرنسية في الجزائر ورفض الاعتراف بها، وعما حدث للصحفي جون ميشال أباتي الذي هوجم بسبب تذكيره الفرنسيين بها.
العميد الذي صعد إلى سدة المسجد الأهم في أوروبا سنة 2020، خاض أيضا في قضايا جدلية وإشكالية تتعلق بمواقفه من القضية الفلسطينية وتصريحاته المثيرة للجدل بعد عملية طوفان الأقصى، ودافع عن مؤسسته بخصوص شركة "الحلال" التي تقوم بالتصديق على المنتجات التي تدخل الجزائر، التي كانت محل تحقيقات صحفية كبرى هنا في فرنسا.. ويقول إن الحملات ضده وصلت حد توجيه تهديدات له، دفعت السلطات الفرنسية لوضعه تحت حراسة شرطية كاملة على مدار اليوم.
تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية أزمة غير مسبوقة.. هل لذلك تداعيات على الجالية الجزائرية المقيمة هنا؟
نعم، هناك وضع يخص الجزائريين والجالية الجزائرية، وبطبيعة الحال، يتم التركيز حاليًا على الجوانب السلبية فقط. في أي جالية، هناك الجيد والسيئ، هناك أناس صالحون وآخرون غير ذلك.. لكن اليوم، لا يتم تسليط الضوء إلا على الجوانب السلبية. لقد تم نسيان الجزائريين الذين عملوا من أجل فرنسا، الذين قدم البعض منهم حتى حياته من أجل فرنسا، وكذلك أبناؤهم وأحفادهم الذين يشكلون اليوم أكبر جالية من الأجانب والمهاجرين في فرنسا.. ومع ذلك، فهي تتعرض لسوء المعاملة ويتم استهدافها.
في كل مرة، نرى الحديث فقط عن المهاجرين غير النظاميين، أو عن بعض المؤثرين، وهم قلة – اثنان أو ثلاثة أعتقد – الذين نشروا رسائل شديدة السوء. الجامع الكبير في باريس، وأنا شخصيًا بصفتي فرنسيًا جزائريًا، أتعرض لسوء المعاملة، هناك محاولة لتشويه سمعتي، وكذلك محاولة لتشويه أصوات جميع الجزائريين؛ حتى إن بعض الصحف وصلت إلى حد الادعاء بأن الهجرة الجزائرية هي الأقل اندماجًا. يتم التركيز عمدا على موضوع أوامر مغادرة الأراضي الفرنسية (OQTF). هذا المصطلح أصبح معروفًا للجميع، وكأنه الحل الوحيد، في حين أن الواقع ليس كذلك.
قرأت مقالتكم التي نُشرت في مجلة المسجد، التي استخدمتم فيها عبارة "أنا أتهم" لإميل زولا، وكان ذلك تعبيرًا قويًا. ما هي دوافعكم في كتابة ذلك.. هل تعتقدون أن الجالية الجزائرية تعيش حالة تيه هنا في فرنسا؟
بالفعل، هي تشعر بالتيه، وأنا أرى ذلك بنفسي. كما تعلمون، المسجد الكبير في باريس هو مكان للزيارة، ومكان للتجمع، وهناك العديد من الجزائريين والفرنسيين من أصول جزائرية الذين يأتون للاستفسار عن الوضع، لأن الأزمة التي مست المسجد كانت غير مسبوقة في حدتها.
لقد تم توجيه اتهامات عنيفة ضد المسجد وضدي شخصيًا، في عدة ملفات؛ وهذه سابقة وتجاوز خطير، لأن المسجد لم يكن يومًا عرضة لمثل هذه الهجمات نظرا لقدسيته، فالجميع يعلم أن هذا الصرح الديني تأسس عام 1926 تكريمًا لدماء المسلمين الذين قاتلوا في الحرب العالمية الأولى.
اليوم، يتم تضخيم الأمور بشكل متعمد في إطار حملات لضرب استقرار الجالية الجزائرية، وهذا أمر مشين. إنه يعكس قلة تقدير للجالية الجزائرية التي لطالما عاشت بسلام في فرنسا وساهمت في مجتمعها.
عندما نتحدث عن الجزائريين، يجب أن نتذكر مساهماتهم في مختلف المجالات. في الرياضة، لدينا بعض من أعظم لاعبي كرة القدم في تاريخ فرنسا من أصول جزائرية، مثل زين الدين زيدان، الذين رفعوا راية فرنسا عاليًا.
لكن ليس فقط في الرياضة، بل أيضًا في الطب، والقانون، وتكنولوجيا المعلومات، وريادة الأعمال. كم من رواد الأعمال الجزائريين اليوم هم فاعلون اقتصاديون مهمون في فرنسا.. ومع ذلك، يتم التعتيم على هذا الجانب الإيجابي والترويج فقط للصور السلبية، وهذا أمر غير مقبول.
لهذا السبب، أنا أريد اليوم إسماع صوتي والرد بوضوح. نعم، أنا أتهم، أتهم أولئك الذين يحاولون تشويه صورة هذه الجالية التي لا تستحق ذلك. وفي الوقت نفسه، يجب أن ندرك أن الحديث عن الجزائريين يمتد ليشمل أيضًا باقي المسلمين، لأن ما تعيشه الجالية الجزائرية اليوم يمسّ جميع الشعوب التي تعرضت للاستعمار وعانت من ويلات الاحتلال.
أنا حزين لما يحدث، لأن الجالية الجزائرية عانت كثيرًا خلال الحقبة الاستعمارية. ورغم ذلك، أظهر الجزائريون دائمًا قدرة كبيرة على التسامح. لم نطالب يومًا بأي شيء، ولم نسعَ أبدًا إلى أي تعويض. ومع ذلك، نجد اليوم محاولات متعمدة لاستفزاز الجالية ودفعها للرد. السؤال الذي يجب أن يُطرح: ما الهدف من هذه الهجمات المتكررة ضد الجالية الجزائرية؟ لو كانت هذه الاتهامات صحيحة، لكان الأمر مفهومًا إلى حد ما، ولكن كلها أكاذيب ومجرد تضخيم إعلامي يهدف فقط إلى تشويه صورتها.
في خضم هذه الأزمة، هل فتحتم قنوات تواصل مع مسؤولين فرنسيين، خصوصًا وزير الداخلية برونو روتايو الذي يهاجم الجزائر ليلًا ونهارًا؟
سأجيب على السؤال، لكن قبل ذلك يجب أن أوضح أمرًا مهمًا: أنا لست ممثلًا رسميًا. هناك من حاول أن يلصق بي صفة "السفير الموازي"، ولكنني لست سفيرًا للجزائر. الجزائر لديها ممثلون رسميون أكفاء للغاية، وهم قادرون على التعامل مع هذه الأزمة بالشكل المطلوب.
لكن، بطبيعة الحال، التقيت وزير الداخلية الفرنسي وتحدثت معه، وحاولت فهم الأسباب التي دفعت إلى توجيه مثل هذه الهجمات ضد المسجد الكبير في باريس. السيد روتايو هاجم المسجد الكبير في باريس مرارًا، ولكنني أوضحت له أنني لم أخرج عن دوري، ولم أفعل شيئًا يستدعي اللوم، لأن دور عميد المسجد لا يقتصر فقط على الجانب الديني. أنا لست إمامًا، بل أمثل مؤسسة دينية، ولدي أئمة يعملون تحت إدارتي في المسجد.
اليوم، تُطرح مسألة الإسلام والجزائر بشكل متكرر، ولذلك أجد نفسي مضطرًا للرد. العلاقة التاريخية القوية بين المسجد الكبير في باريس والجزائر لم أكن أنا من أنشأها، بل هي حقيقة تاريخية يجب التعامل معها. حتى زيارتي للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تحولت إلى قضية! هل يُعقل أنني إذا التقيت رئيس الجمهورية الجزائرية يجب أن أخفي ذلك؟ بالعكس، أنا أعتبر ذلك شرفًا لي أن أُستقبل من قِبل رئيس الدولة الأكثر أهمية في إفريقيا، الدولة التي كانت دائمًا في طليعة النضال الثوري.
لذلك، أكررها بكل وضوح: هذا شرف لي، ولا علاقة له بأي محاولة للتأثير أو التدخل في أي شأن سياسي. البعض يتهمني بأنني "عميل تأثير" لصالح الجزائر، لكن بأي صفة؟ وكيف؟ هل السبب أنني أؤكد على انتمائي المزدوج، كفرنسي وجزائري؟ أم لأنني أُعبّر عن حبي لوطني؟ أم لأنني أعمل على ضمان دخول المنتجات الحلال إلى الجزائر؟
لقد سافرت إلى الجزائر سابقًا، وظهرت على عدة قنوات تلفزيونية جزائرية لأؤكد للمستهلكين الجزائريين أنه، بصفتي عميدا للمسجد الكبير في باريس، وأمينًا على مهمة التصديق على المنتجات الحلال، أتعهد بضمان أن ما يتم استهلاكه في الجزائر هو بالفعل حلال.
عندما عدت من الجزائر في ديسمبر 2022، بعد توقيع العقد مع وزارة الشؤون الدينية ووزير التجارة، قمت بنشر العقود بشكل علني على موقع المسجد الكبير في باريس. لو كان هناك شيء أخفيه، لكنت تصرفت في السر، لكنني لم أفعل. كلما زرت الجزائر، أقول بصراحة: لقد ذهبت إلى الجزائر.
على ذكر ملف "الحلال"، وفقًا للتحقيقات التي أجرتها بعض الصحف في فرنسا، مثل صحيفة "L’Opinion"، وصفت شركتكم التي تشرف على عملية التصديق على المنتجات، بأنها "وهمية"، وأنها لا تمتلك موظفين، ووجّهوا لكم انتقادات بهذا الشأن.. كيف تردون على ذلك؟
أولًا، الأشخاص الذين زوّدوا صحفيي "L’Opinion" بهذه المعلومات هم للأسف، في معظمهم، جزائريون، وقد تم ذكر بعضهم بالاسم، بل هناك أحدهم يطمح يومًا ما لأن يصبح عميدا للمسجد الكبير في باريس. أنا آسف، لكن كان ينبغي على الصحفيين القيام بعملهم بموضوعية، والتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها. مرة أخرى، أكرر: كل شيء واضح ومعلن للجمهور.
أما بخصوص الشركة المعنية، فأود تذكير المشاهدين والقراء والمستمعين بأنني محامٍ، وأعرف جيدًا الإطار القانوني الذي أعمل ضمنه.
جمعية "الحبوس والأماكن المقدسة للإسلام" هي جمعية مسجلة وفق قانون 1901، وهي المالكة للمسجد الكبير في باريس، وهي منظمة غير ربحية. عندما حصلنا على شرف توقيع عقد مع وزير التجارة الجزائري ووزير الشؤون الدينية الجزائري، عقدت اجتماعًا مع محامي المسجد الكبير في باريس لدراسة كيفية تنظيم الأمور من الناحية القانونية، وتمت التوصية بإنشاء شركة.
إذًا، هذه الشركة ليست وهمية، بل هي كيان قانوني قائم، وهي شركة مساهمة ذات مساهم وحيد، وهو جمعية الأوقاف. أنا ومديري العام نمثل بشكل قانوني جمعية الأوقاف، وهذا أمر شرعي تمامًا ولا يطرح أي إشكال قانوني. أما النقطة الثانية؛ فبصفتي الرئيس المدير العام لهذه الشركة، كان من حقي أن أتقاضى راتبًا، لكنني رفضت ذلك. حتى المدير العام كان يمكنه أن يتقاضى راتبًا، لكنه أيضًا رفض. صحيح أن القانون يسمح بذلك، لكن المسجد الكبير في باريس ليس مؤسسة اقتصادية تهدف إلى تحقيق الربح، بل يسعى فقط إلى تأمين الموارد اللازمة لإدارة المسجد وصيانته، ودعم الجمعيات التابعة له، والقيام بالأنشطة الخيرية.
المجتمع المسلم في فرنسا يواجه صعوبات، وخلال شهر رمضان، نوزع ما يقارب 20 ألف وجبة يوميًا في جميع أنحاء فرنسا. بأي أموال نقوم بذلك؟ كل العقود التي وقعناها مع الشركات المعنية بتوثيق المنتجات الحلال، تُستخدم إيراداتها لدعم العبادة الإسلامية في فرنسا، وليس لصالح المسجد الكبير فقط، بل لصالح المسلمين عمومًا، لأن علينا تنظيم أمورنا المالية وفقًا للقوانين الفرنسية.
ما تم إثارته هو مجرد حملة مغرضة ذات نوايا سيئة، وأود أن أوضح نقطة مهمة للجزائريين: فرنسا دولة علمانية، لا تتبنى أي ديانة ولا تموّل أي نشاط ديني، وهذا يعني أن كل ديانة يجب أن تجد مصادر تمويلها بنفسها. إذًا، ما هو الشيء غير القانوني الذي ارتكبته؟ حتى من الناحية الأخلاقية، الدولة الفرنسية كانت تبحث عن وسائل لتمويل العبادة الإسلامية، من خلال فرض ضريبة على الحج أو على المنتجات الحلال.
تحدثتم مؤخرًا عن وجود تهديدات ضدكم، بل وذكرتم أن هناك من حاول تنفيذها.. هل يمكنكم إخبارنا بالمزيد حول هذا الموضوع؟
هذا جزء من طبيعة منصب عميد مسجد باريس. أنا تحت حماية الشرطة على مدار الساعة، 24/24.
لكن من يهددكم؟
لا أعلم. لو كنت أعلم، لكان الأمر أفضل وأسهل للتعامل معه. لكن منصب عميد هو منصب يحظى بطموح الكثيرين، وهناك من يتمنى شغله بأي وسيلة. إضافة إلى ذلك، فإنني أزعج الكثيرين، فحين أتحدث بصوت عالٍ وأندّد بما يحدث اليوم ضد المسلمين، فإن ذلك لا يروق للجميع. لذلك، هناك دائمًا من يرغب في الانتقال من التهديد إلى الفعل.
أثارت تصريحاتكم بشأن القضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر الكثير من الجدل. هل يمكنكم توضيح موقفكم مما يحدث حاليًا في غزة؟
كنت دائما متأثرا بهذه القضية، فقد ترعرعت في الجزائر، وكانت القضية الفلسطينية دائمًا حاضرة في وجداني. لذلك، لا يمكنني التخلي عنها أو إعادة النظر في موقفي منها، لأن ذلك سيكون بمثابة محو جزء من ماضيّ. وعندما أصبحت عميدا للمسجد الكبير في باريس، ظلت القضية الفلسطينية قضية أساسية بالنسبة لي، ليس فقط من منطلق ديني، بل أيضًا من منطلق شخصي كإنسان خضع للاستعمار وعانى من التمييز بسبب الأرض.
وعندما وقعت أحداث السابع من أكتوبر، كنت على دراية مبكرة بأن الرد الإسرائيلي سيكون عنيفًا للغاية. لهذا السبب، قبل حتى أن تتفاقم الأوضاع، قبلت دعوة للظهور على أحد البرامج التلفزيونية برفقة كبير حاخامات فرنسا، ووجهنا نداءً لوقف إطلاق النار فورًا وإنهاء الأعمال العدائية. لقد كنت مدركًا لما سيحدث، وهو أن الجيش الإسرائيلي سيرد بقوة غير مسبوقة. لذلك، دعوت مبكرًا للسلام ولوقف إطلاق النار الفوري ولإنشاء دولة فلسطينية.
في أكتوبر 2023، اقترحت أن يتم الإعلان رسميًا، قبل نهاية العام، عن قرار أممي يؤكد قيام الدولة الفلسطينية، لأن من غير المعقول أن يُحرم الشعب الفلسطيني من حقه في دولة مستقلة. في 13 أكتوبر، يوم الجمعة، ألقى الإمام في المسجد خطبة تحدث فيها عن الموقف الإسلامي من النزاعات المسلحة، حيث شدد على أن الإسلام يتعامل بحذر شديد مع هذه القضايا، مذكّرًا بأن النبي محمد كان يوصي دائمًا بمعاملة الأسرى معاملة كريمة، وعدم تعذيبهم، بل إعادة تأهيلهم.
لقد ذكّرنا خلال تلك الخطبة بمعركة بدر، التي كانت لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي، حيث تجلى فيها العفو واحترام الكرامة الإنسانية، وهو ما حرصنا دائمًا على التأكيد عليه.
إن الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني أمر لا يمكن تحمله.. ولذلك، اتخذت قرارًا بأن تشمل كل خطب الجمعة في المسجد الكبير بباريس دعوات خاصة لغزة، وهذا أمر أتحمل مسؤوليته بالكامل بوصفي رئيس هذه المؤسسة الدينية. وحتى يومنا هذا، نقوم كل جمعة بالدعاء لفلسطين.
أما عن موقفي، فهو واضح: أطالب بالإسراع في إنشاء دولة فلسطينية. لكن للأسف، الظروف الحالية تجعل هذا الهدف أكثر صعوبة. ومع ذلك، يجب علينا جميعًا أن نعمل لتحقيقه، لأن هذه مسؤولية إنسانية.
عندما التقيت مؤخرًا بالبابا، ناقشنا هذا الموضوع، وأوضحت له أنه لا يمكننا كرجال دين، نؤمن بحرمة الحياة البشرية، أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه المأساة. فالبابا نفسه كان من أبرز دعاة الأخوة الإنسانية، حيث وقّع في أبو ظبي على وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر، كما زار العراق والتقى بالمرجع الشيعي آية الله السيستاني. كل هذه الجهود تعني لي الكثير، لأنها تعكس القيم التي يجب أن ندافع عنها.
اليوم، كما قال الرئيس ترامب، قد نكون على مشارف حرب عالمية ثالثة، وأنا بصفتي عميدا للمسجد الكبير في باريس لا يمكنني أن أبقى صامتًا، بل يجب أن أذكّر بتعاليم ديننا التي تدعو إلى الأخوة الإنسانية والتضامن مع المظلومين. الشعب الفلسطيني في غزة بحاجة إلينا، بحاجة إلى دعمنا، إلى دعائنا، إلى وقوفنا إلى جانبه، وأنا متمسك بإعلان هذا الموقف بكل وضوح.
تم تفسير تصريحاتكم في ذلك الوقت، على أنكم تنكرون حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، كيف تردون على ذلك؟
إنها الجهات نفسها التي توجه لي الاتهامات المعتادة، سواء فيما يخص الشؤون المالية أو غيرها. هناك نائب، وهناك شخص آخر يسعى ليصبح عميدا للمسجد الكبير في باريس، هم الذين يروجون لهذه المعلومات التي تجد رواجًا في الجزائر. لكن الحقيقة واضحة، ويمكن لمن يقرأ ما أكتبه أو يستمع إلى ما أقوله أن يعرف موقفي الصريح تجاه غزة ومقاومتها.
هل تعتقدون أن الإسلاموفوبيا في فرنسا أصبحت ظاهرة متنامية، أم أنها لا تزال هامشية؟
بالتأكيد ليست هامشية، بل أصبحت ظاهرة منتشرة بشكل واضح. هناك حملة مستمرة في بعض وسائل الإعلام لنشر الإسلاموفوبيا.
هل تشيرون إلى قناة CNews؟
هناك العديد من وسائل الإعلام، وليس فقط CNews. صحيح أن هذه القناة لا تفوت أي فرصة لمهاجمتي، ولكن المسألة أوسع من ذلك بكثير. الأمر المقلق اليوم؛ هو أن الخطاب المعادي للإسلام أصبح مسموحًا به في فرنسا دون أي عواقب قانونية. عندما يتعلق الأمر بالإسلام أو المسلمين أو المساجد، يمكن لأي شخص أن يقول ما يشاء دون خوف من الملاحقة القضائية، وهذا هو الأمر الخطير وغير المقبول.
على سبيل المثال، تعرضت بعض المساجد للاعتداءات، حيث ألقيت رؤوس خنازير أمام أبوابها، وحتى تعرض أحدها للحرق مؤخرًا. لكن الأسوأ من ذلك، أن هذه الحوادث تمر في صمت، دون أي تفاعل جدي من الإعلام أو السلطات. هل سمعتم مثلا عن المسجد الذي تم إحراقه مؤخرًا؟ لم يتم التطرق إلى هذا الموضوع في وسائل الإعلام، ولم يصدر أي رد فعل من السلطات الرسمية. لا أحد يتحرك عندما تقع مثل هذه الاعتداءات الخطيرة.
وفي المقابل، عندما يتم الحديث عن المسلمين في الإعلام، يكون ذلك دائمًا في سياق سلبي، حيث يُحملونهم مسؤولية كل المشاكل. اليوم، كل شيء يتم إلقاء اللوم فيه على المسلمين. في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الأمر حتى مادة للسخرية. على سبيل المثال، هناك من يزعم أن أزمة نقص البيض في فرنسا سببها شهر رمضان، وقبل عامين كانت أزمة زيت الطهي، وقيل إنها بسبب المسلمين. حتى أزمة نقص اللحوم يتم تفسيرها بأن المسلمين يذبحون عددًا كبيرًا من المواشي.. هذا أصبح غير محتمل!
مؤخرًا، صدر كتاب بعنوان "أحب فرنسا لكنني أتركها" (J’aime la France mais je la quitte)، وقد استضفنا مؤلفيه في ندوة بالمسجد الكبير في باريس. الكتاب من تأليف باحثين غير مسلمين أجروا دراسة معمقة حول وضع المسلمين في فرنسا، وخلصوا إلى أن هناك أعدادًا متزايدة منهم تغادر البلاد بسبب التمييز المتزايد.
البعض يهاجر إلى دبي، والبعض الآخر يعود إلى بلده الأصلي، وهذا أصبح اتجاهًا متصاعدًا. ما معنى ذلك؟ معناه أن المسلمين في فرنسا لا يُعاملون بنفس الحقوق التي تكفلها الدستور والقوانين الفرنسية، التي من المفترض أن تجرّم أي شكل من أشكال التمييز على أساس الأصل أو العرق أو الدين. لكن عندما يكون الضحية مسلمًا، يصبح الأمر "غير مهم"؟!
تماما هذا هو السؤال.. لماذا لا يتم التعامل مع جميع أتباع الديانات على قدم المساواة في فرنسا؟ على سبيل المثال، هناك حساسية أكبر تجاه الأفعال المعادية للسامية مقارنة بالأفعال الإسلاموفوبية، كيف تفسرون ذلك؟
الأمر مرتبط بالتاريخ؛ ذلك ما يفسر هذا التباين في التعامل. الأفعال المعادية للسامية تعود بنا إلى ما حدث في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقعت المحرقة (الهولوكوست)، وتم إبادة أشخاص فقط لأنهم كانوا يهودًا. فرانز فانون، المفكر العظيم الذي تعرفه الجزائر جيدًا، قال ذات مرة: "عندما يتحدثون عن اليهود، أصغِ جيدًا، لأنهم يتحدثون عنك أيضًا"؛ بمعنى أن ما حدث لليهود بالأمس قد يحدث للمسلمين اليوم.
لذلك، فإن مسألة معاداة السامية تعد إشكالية حقيقية، وأنا لا أرغب في مقارنة الأمرين، لأنهما ظاهرتان مختلفتان وخطيرتان، لكن يجب التعامل مع كل واحدة منهما على حدة. معاداة السامية تُعتبر قضية جوهرية في المجتمع الفرنسي، لأنها ارتبطت بجريمة بشعة خلال الحرب العالمية الثانية، حين تم ترحيل وقتل أشخاص فقط بسبب ديانتهم. أنا لا أريد أن يحدث ذلك للمسلمين، لكننا نرى تصاعدًا تدريجيًا في العداء تجاههم، وإذا استمرت الأمور بهذه الوتيرة، فقد نصل إلى مستوى مماثل من الاضطهاد. لا يمكننا اليوم القبول بالتمييز ضد أي شخص بسبب اسمه أو أصله أو ديانته، فذلك مرفوض تمامًا.
وما يحدث لنا اليوم، سبق أن حدث لليهود بالأمس، ويمكن أن يحدث غدًا لمجتمعات دينية أخرى أو لمجموعات ذات أصول مختلفة. لهذا، علينا أن نكون حذرين جدًا، لأن المشكلة تبدأ عندما نرى الآخر مختلفًا عنا. في القرآن الكريم، هناك آية تتحدث عن هذا الأمر، وهي أن الله خلقنا مختلفين لكي نقترب من بعضنا البعض ونتعارف، وهذه الاختلافات، خاصة فيما يتعلق بمعتقداتنا، هي جزء من طبيعتنا كبشر في عبادتنا للخالق.
لكن رغم ذلك، وقعت جرائم إبادة قبل الهولوكوست، وبالضبط خلال بدايات الاستعمار الفرنسي للجزائر، مثل جرائم الخنق بالدخان (Les Enfumades) وغيرها.. وعندما قارن الصحفي جان ميشيل أباتي بين النازية وجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تعرض لهجوم عنيف. لماذا لم يكن هناك اعتراف بهذه الجرائم المرتكبة خلال الاستعمار؟
لأن الجزائر لم تطالب بذلك مطلقًا، لم تضع الجزائر هذا الأمر في قائمة أولوياتها، بل اعتبرت أن أهم إنجاز حققته هو الاستقلال، وهو ما كان الأهم بالنسبة لها في 1962. لم تسعَ الجزائر إلى حساب الأضرار أو تقديم "محاسبة للدماء"، بل كان تركيزها منصبًا على تحرير الشعوب الأخرى من نير الاستعمار، دون الاكتفاء بالنظر إلى وضعها الخاص.
عندما نالت الجزائر استقلالها في 5 جويلية 1962، أعلنت أنها لن تعتبر نفسها مستقلة بشكل كامل إلا عندما تحصل بقية الشعوب، لاسيما في إفريقيا، على استقلالها أيضًا. كان هناك مسار تحرري شامل، وأظهر الجزائريون نبلًا كبيرًا في موقفهم. لم يحاولوا حساب الخسائر أو المطالبة بتعويضات، بل تحركوا من أجل تحقيق الحرية لهم وللآخرين.
هل صدمتكم العقوبة التي فرضتها إذاعة RTL على جان ميشيل أباتي؟
بكل تأكيد، لأنها كانت لمجرد أنه صرح بالحقيقة. لقد عوقب على قول الحقيقة، في حين أننا نرى يوميًا في وسائل الإعلام هجمات متكررة لا تخضع لأي عقوبة. المشكلة الكبرى اليوم هي أن بعض وسائل الإعلام أصبحت تقوم بدور الدعاية أكثر من تقديم الأخبار بشكل محايد. لم يعد هناك حياد إعلامي حقيقي، بل هناك انحياز واضح. ما الخطأ الذي قاله جان ميشيل أباتي؟ لقد استند إلى حقائق تاريخية مثبتة، ومع ذلك تمت معاقبته.
فرنسا، التي تُعرف بأنها "موطن حقوق الإنسان"، تجد نفسها الآن في موقف صعب عندما يتعلق الأمر بمبدأ أساسي مثل هذا.
هذا مؤلم حقًا، لكنني شخص متفائل بطبعي، وأتمنى أن نعود قريبًا إلى الحوار الحقيقي بين الجزائر وفرنسا، لأن الوضع الحالي، حيث ينظر كل طرف للآخر كخصم، غير صحي على الإطلاق.
كيف ترون المخرج لهذه الأزمة؟
أتمنى أن يدرك صناع القرار في فرنسا والجزائر طبيعة الوضع. هناك واقع قانوني جزائري وواقع آخر فرنسي.. لا يمكن تشويه صورة الجزائر باعتبارها "دولة ديكتاتورية" كما يحاول البعض تصويرها، فالجزائر دولة ذات سيادة، بتاريخها ومؤسساتها وقوانينها، وقد مرت بمعاناة كبيرة. تشويه صورة الجزائر كدولة فتية بهذه الطريقة أمر مؤسف حقًا. يجب أن نكون عقلانيين وندرك أن الجزائر وفرنسا يمكن أن تكونا شريكين لا خصمين. لطالما دافعت عن فكرة إقامة شراكة إستراتيجية حقيقية بين البلدين، كما هو الحال بين ألمانيا وفرنسا. اليوم، للأسف، أصبحنا في حالة "مشاحنة سياسية"، لكن يمكن تصحيح المسار. أعتقد أن الرئيسين عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون يمكنهما إيجاد حلول إذا تمكنا من التحدث بصراحة.
لكن هناك انقسام واضح داخل الحكومة الفرنسية، بعض الشخصيات تتبنى مواقف تصعيدية مثل برونو روتايو، في حين يسعى آخرون، مثل وزير الخارجية، إلى التهدئة. كيف وصلت فرنسا إلى هذه الحالة؟
الوضع السياسي في فرنسا غير مسبوق. منذ حل الجمعية الوطنية العام الماضي، لم يعد للرئيس ماكرون أغلبية برلمانية، مما دفعه لمحاولة إيجاد توازن دقيق. رأينا استقالة الحكومة، وهو حدث غير معتاد في تاريخ الجمهورية الخامسة. ثم حكومة ميشيل بارنييه التي لم تتمكن من الاستمرار بسبب حجب الثقة، والآن لدينا رئيس وزراء جديد، مما يعكس حالة عدم استقرار سياسي غير مألوفة. هل هناك انسجام داخل الحكومة الفرنسية؟ من الواضح أن الإجابة هي لا. والآن نقترب من شهر جوان، حيث قد يقرر الرئيس ماكرون حل البرلمان مرة أخرى واستعادة زمام الأمور.
يجب ألا ننسى أن ماكرون، خلال حملته الانتخابية، وصف الاستعمار الفرنسي بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وبالتالي لا يمكن القول إن الجميع يتبنى نهجًا تصعيديًا تجاه الجزائر. لكن الرئيس ماكرون لا يمكنه الترشح لولاية ثالثة، أمامه أقل من عامين في منصبه، ويجب استغلال هذا الوقت للبحث عن حلول جادة مع الجزائر.
هل تحدثتم مع الرئيس ماكرون عن هذه الأزمة؟
نعم، تحدثت معه عن الأزمة، وبالطبع هو يتمنى أن يتحدث سريعا مع الرئيس تبون. لا يزال الرئيس ماكرون ينادي الرئيس تبون "أخي عبد المجيد"، وكان دائمًا يكن له احترامًا كبيرًا. الرئيس عبد المجيد تبون يدافع عن مصالح بلاده ويوجد أيضا في وضع معقد. ربما في لحظة ما، سيتمكنان من تجاوز هذه التوترات، وقد يجدان طريقا للتعاون خدمة لمصالح بلديهما ولصالح الجالية الجزائرية في فرنسا.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال