
هنا في باريس، تلمس في وجوه كثير من الجزائريين حيرة ممزوجة بقلق وتساؤلات حول مستقبل إقامتهم في فرنسا، بعد أن أصبحوا عرضة لخطاب تحريضي اختزالي، يردده اليمين بصوت مرتفع صباح مساء.. خطاب يحاول تصويرهم كـ"مشكلة فرنسية"، في تدليس للواقع الذي يؤكد حضورهم القوي والمفيد داخل المجتمع الفرنسي. لكن ماذا لو كانت هذه الأزمة نافعة من حيث كونها أخرجت إلى العلن عنصرية متجذرة وكامنة ضد الجزائريين، لا يعرفها إلا من عايش حقيقتها في أماكن العمل والإدارات وحتى العلاقات الشخصية؟
كانت جلسة استثنائية، تلك التي حضرتها "الخبر" في مائدة إفطار رمضانية نظمتها جمعيةADDRA بـ"بال فيل"، ذلك الحي الجميل المشحون بالتاريخ الجزائري في قلب العاصمة الفرنسية باريس. لم يكن الحضور من نجوم السياسة والإعلام والفن، بل من جزائريي الطبقة المتوسطة الذين يساهمون بحيوية ونشاط في المجتمع الفرنسي. كلهم شباب، بين العشرين والأربعين، إما ولدوا هنا في فرنسا أو قدموا من الجزائر للدراسة فتفوقوا وأصبحوا إطارات في مؤسسات متوسطة وكبيرة تسند الاقتصاد الفرنسي. منهم الأطباء والمهندسون وأكثرهم من نخبة الإعلام الآلي الذين يعملون في مجالات حماية المعلومات وتطوير البرامج وتصميم المواقع، حتى أن أحدهم يشتغل في مجال تطوير برمجيات محاكاة الطيران، مشروع ضخم بتمويل أوروبي مباشر.
الاستماع لهذه النخبة مفيد، كونها ظلت تعمل في صمت وتتحمل كل الضربات، فقط لأنها لا تريد التفريط في جزائريتها. فالإعلام الموجه هنا من تيار اليمين والمهيمن حاليا على المشهد يفضل التعاطي مع الأخبار المنوعة عن "الجزائري المنحرف" الذي يسبب الصداع لـ"الفرنسي أصلي السلالة"، وأي رواية أخرى عن الجزائري الناجح أو المنضبط قد تفسد "النوتة" المراد إسماعها.
أما الإعلام الآخر غير المنحاز، فهو يعمى أو يتكاسل عن نقل إسهامات هذه الجالية، وقد يكون ما تعيشه العلاقات اليوم فرصة للاستيقاظ، وفق هؤلاء، لأن أبلغ رد على محاولة فرض صورة نمطية معممة وخاطئة، لأغراض انتخابية أو انتقامية، هو إبراز إسهامات الجزائريين الفعلية والعينية في خدمة المجتمع الفرنسي، التي لا يمكن قطعا الاستغناء عنها.
قصص مختلفة وانطباعات متشابهة
لكل واحد منهم قصته الخاصة التي تحضر فيها "جزائريته" لا محالة، إما كمعطل للنجاح بسبب "الصورة النمطية الفرنسية" لحاملي هذه الجنسية، أو كعامل إصرار على المواجهة لغاية الوصول إلى الهدف.
تتعدد المسارات والحكايات، لكن الانطباعات العامة تكاد تكون متشابهة حتى وإن اختلفت قليلا. يقول الطاهر (مهندس إعلام آلي) إنه يتعرض باستمرار لمواقف يستشعر فيها هذه العقد المترسبة في ذهنية بعض الفرنسيين، مضيفا: "نحن الجزائريين المقيمين في فرنسا نعيش وسط تناقض مستمر. نحن جزء من هذا المجتمع، نعمل فيه، نساهم في اقتصاده، ندفع الضرائب ونشغل مناصب مهمة، لكننا رغم ذلك نظل "آخرين" في نظرهم".
لذلك، يرى هذا الشاب متعدد التجارب الذي سبق له تجريب البيئة الأنغلوسكسونية، أن "الأزمة الأخيرة بين الجزائر وفرنسا لم تأتِ بجديد، فقط كشفت عن أمور كانت مخفية تحت السطح"، متابعا في تحليله وسط اهتمام من الحاضرين: "لقد أظهرت بوضوح كيف ينظرون إلينا. لا يرون الطبيب أو المهندس أو الباحث الجزائري، بل يفضلون التركيز على صورة الجزائري المتهم بالجريمة أو العاطل عن العمل أو مروّج المخدرات. هذه النظرة ليست مجرد مصادفة، بل هي نتيجة تاريخ طويل من التصورات النمطية التي تُغذى باستمرار".
ما يثير استياءنا أكثر، يضيف الطاهر، هو محاولتهم المستمرة لفصل "الجزائري الجيد" عن مجتمعه، وكأن النجاح الفردي يتناقض مع الهوية الجزائرية. نسمع كثيرا عبارة: "أنت جزائري! لكنك لست مثل الآخرين"، كما لو أن الاعتراف بإنجازاتنا لا يكون إلا بشروط، وكأن الجزائري الناجح مجرد استثناء وليس جزءا من واقع أوسع، يضيف بحرقة وانفعال.. قبل أن يقطعه إطار آخر يشتغل في مجال المالية: "يريدون أن يجعلوا كل جزائري ناجح يبتعد عن باقي أبناء جاليته، لأنهم يرون أن ارتباطه بمحيطه عائق أمام اندماجه الكامل. لكننا نعلم أن هذا ليس اندماجا، بل محاولة لفصلنا عن بعضنا، لكسر أي تضامن قد يجمعنا".
تشكو الطبيبة فتيحة، رغم أنها تحمل الجنسية الفرنسية، من وجود تمييز أحيانا في المستشفيات الفرنسية. تقول إن الطبيب الجزائري مقدّر لكن عندما يحين موعد الترقية ويكون منافسه من أصول فرنسية يتم تفضيل الأخير.
توافقها سناء التي تعمل في هيئة حكومية بالقول: "في سوق العمل، نواجه تمييزا واضحا. حين يكون لدينا نفس المؤهلات ونفس الخبرة، نجد أن اسمنا وحده قد يكون سببا لاستبعادنا. لا نملك رفاهية ارتكاب الأخطاء، لأن أي خطأ صغير يتحول إلى دليل على عدم كفاءتنا، بينما نجاحاتنا، مهما كانت كبيرة، تبقى غير مرئية أو يُنظر إليها على أنها مجرد استثناءات".
من بين ما يُؤاخذ عليه الجزائري ظلما، وفق كلام الحاضرين، أنه صريح ويتكلم بصوت عال عندما يرى الخلل. تقول سناء: نحن الجزائريين في العادة لا نجيد النفاق، وهذه مشكلة أخرى في نظرهم. نحن نقول رأينا بوضوح، لا نمارس سياسة "بني وي وي"، لا نقبل الظلم أو التهميش، وهذا ما يجعلنا في بعض الأحيان غير مرغوب فينا. المسؤول الذي يريد فرض سلطته دون مناقشة لا يحب الجزائري الذي يواجهه بالحقيقة. يريدوننا أن نتقبل كل شيء بصمت، لكن هذه ليست طبيعتنا".
تأثير التاريخ في النظرة إلى الجزائريين
يتشعب النقاش وترتفع الأصوات في ديكور جزائري خالص تزينه المشروبات القادمة من "البلاد"، إلى أن يصل إلى ملف التاريخ وثقله في العلاقات بين البلدين. تقول سلمى المتخرجة حديثا من جامعة في شمال فرنسا، إنها تتذكر جيدا أن التاريخ الاستعماري في المدرسة لم يكن سوى أوراق تعد على الأصابع في المنهاج. تطرح هنا إشكالية أن "التاريخ الفرنسي مليء بالفصول التي تم طمسها أو تحريفها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالاستعمار".
وتسترسل: "لا يريدون الاعتراف بالجرائم التي ارتكبوها في الجزائر، لا يريدون أن يتعلم أبناؤهم ما حدث بالفعل. كيف يمكن أن تكون هناك علاقة صحية بيننا وبينهم إذا لم يكن هناك اعتراف بالماضي؟ كيف يمكنهم أن يعاملونا بندية وهم لا يعترفون أصلا بجرائمهم؟ الاعتراف ضروري، ليس فقط من أجل العدالة التاريخية، ولكن أيضا من أجل بناء علاقة طبيعية داخل المجتمع".
عند هذه النقطة، يتدخل شاب آخر من الإطارات الحاضرة، ليقول إن "هذه المعاملة التي يعانيها الجزائريون الناجحون أو حتى العاديون في المجتمع الفرنسي ليست مجرد مواقف فردية، بل هي جزء من منظومة كاملة تتجاهل التاريخ أو تعيد صياغته بما يخدم سردية معينة". ويضيف قائلا: "فرنسا لم تكن مستعدة يوما للنظر بصدق إلى ماضيها في الجزائر، وهذا يتضح من تراجع قناة عمومية (فرانس 5) عن نشر وثائقي يتعلق بجرائمها الكيميائية ضد الجزائريين. هي لا تريد أن تواجه الحقيقة".
ليتابع: "الأمر نفسه ينطبق على المدرسة والثقافة والإعلام، وهي أدوات صناعة الرأي العام في فرنسا. الطفل الفرنسي لا يتعلم الحقيقة في المدرسة، بل يتم تلقينه روايات مجتزأة ومُحرفة تركز على معاناة المستوطنين الفرنسيين بعد الاستقلال وتتجاهل ما ارتكبته فرنسا من مذابح وجرائم ضد الجزائريين".
يعقّب متدخل ثان حول عودة أطروحة تمجيد الاستعمار، مدعما كلام صديقه: "نسمع اليوم الخطاب الذي يتبناه اليمين المتطرف، الذي يسعى لمحو الجزائري من التاريخ أو إعادة صياغته بطريقة تجعله مجرد اختراع فرنسي. يريدون أن يظهروا أن الجزائر لم تكن موجودة كدولة حقيقية إلا بفضل فرنسا. هذه استراتيجية نفسية تهدف إلى إبقاء الجزائري دائما في موقع أدنى، يشعره بأنه مجرد تابع لا يمكنه أن يكون ندا حقيقيا للفرنسي".
مشكل تنظيم الجالية
لكن رغم كل هذا، هناك من الجزائريين المقيمين في فرنسا من يفضلون التعامل مع الواقع كما هو دون ممارسة ما يسمونه "دور الضحية"، يقول الشاب عمر المهندس في البرمجيات، بعد أن استمتع جيدا للنقاش: "المشكلة ليست في الفرنسيين العاديين بل في خطاب الإعلام والسياسيين الذي يستخدمنا كورقة انتخابية. الكثير من الجزائريين هنا يميزون بين الخطاب الدعائي الذي يُرَوَّج ضدنا، وبين الواقع الذي يعيشونه مع الفرنسيين البسطاء. البعض يقولون إن سلوكهم اليومي ومعاملاتهم مع الآخرين تمكنت من تغيير الكثير من الأفكار المسبقة". وأضاف: "هناك منّا من قرر مقاطعة الإعلام وعدم الاكتراث لما يقال في السياسة، لأنهم يرون أن كل ذلك لا يتجاوز كونه مجرد دعاية انتخابية لا تغير شيئا من الحقيقة. الحقيقة هي أن وجودنا هنا أصبح أمرا واقعا، لا يملك حتى اليمين المتطرف، مهما بلغت قوته، القدرة على تغييره".
ومما تكشفه الأزمة، وفق يوغرطة عياد، مسؤول جمعية "أدرا"، أن هناك ضعفا في تنظيم الجالية الجزائرية التي لا تزال غير قادرة على فرض صوتها في المشهد العام، ليختم بصرخة يريد أن تصل إلى كل أبناء الجالية: "الأزمة الحالية جعلتنا نطرح على أنفسنا سؤالا مهما: لماذا لا يوجد من يدافع عنا في الإعلام؟ نحن جالية كبيرة، لكننا غير ممثلين. عندما تُثار قضية تخصنا، لا نجد أصواتا قوية تتحدث باسمنا، لا نملك شخصيات سياسية أو إعلامية مؤثرة تدافع عن حقوقنا. عندما يتعلق الأمر بقضايانا المصيرية، نبدو وكأننا مشتتون، كل واحد في عالمه، رغم أننا نعرف أن ما يمس أحدنا اليوم قد يمس الآخر غدا".
ويؤكد عياد أن الحقيقة التي يجب أن تسوّق ويدركها الفرنسيون أن الهجرة النظامية الجزائرية لفرنسا في الثلاثين سنة الأخيرة كانت في أغلبها لأشخاص ذوي تعليم عال، عكس هجرات السنوات الأولى للاستقلال التي كانت تخص العمالة اليدوية، مبرزا أن النخب الجزائرية تساهم بقوة وفعالية في كل مجالات الاقتصاد الفرنسي. وحتى من أتوا بطريقة غير نظامية إلى فرنسا من الجزائريين، وهم جزء فقط من 900 ألف شخص من جنسيات متعددة دون وثائق، هم في غالبيتهم الساحقة يشتغلون ويبحثون عن تحسين أوضاعهم، ومنهم من يدفع الضرائب وهو محروم من الحقوق والخدمات، ومع ذلك يتحمل إلى غاية تسوية وضعيته القانونية.
لذلك، يرى عياد أن التركيز على فئة محدودة جدا في جالية بأعداد هائلة، سواء عن عمد أو جهل، يعطي صورة مغايرة تماما للواقع.