
تضع الجزائر أمن الساحل كجزء أساسي من أمنها الداخلي، وهو ما يدفعها لتسخير جميع الجهود الدبلوماسية للتحرك إقليما ودوليا من أجل الدفع نحو إيجاد حلول لعدة ملفات تنهك مقدراتها وتشكل تهديدا لأمنها القومي، في مقدمتها العمل على مساعدة الأشقاء لتجاوز التوترات الداخلية التي خلفتها الانقلابات الأخيرة وتجنب تعاظم نشاط الجماعات الإرهابية بما يفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية.
وقد أكد وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، أحمد عطاف، في وقت سابق، اضطلاع الجزائر بثلاثة أدوار محورية على مستوى منطقة الساحل، حيث تحرص على الوساطة لإنهاء الأزمات والنزاعات، على غرار الوساطة التي أدت إلى توقيع اتفاق السلم والمصالحة في مالي عام 2015 والذي تخلت عنه باماكو قبل أشهر مدفوعة بمخططات أجنبية تسعى لتأزيم الأوضاع الأمنية في المنطقة.
كما تركز الجزائر على قيادة جهود التعاون الإقليمي في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، فضلا عن تمويل وتنفيذ مشاريع تنموية في دول الجوار عبر الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية. وفي هذا الإطار أعلنت الجزائر خلال القمة رقم 36 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي عن ضخ مليار دولار من أجل التضامن والمساهمة في دفع عجلة التنمية بالقارة الإفريقية.
ووقعت الجزائر مع نيامي الشهر الماضي اتفاقية للتسهيلات الإدارية والجمركية الكفيلة بتنفيذ المشاريع المخصصة لدولة النيجر من قبل الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية. وتهدف الجزائر من خلال هذه المشاريع إلى معالجة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة الساحل، وذلك بخلق فرص اقتصادية تشجع السكان على الاستقرار وتحد من الهجرة غير الشرعية وتعيق أنشطة شبكات تهريب الأسلحة والمخدرات وتضعف الجماعات الإرهابية المسلحة. وتعتبر هذه الشراكات ركيزة أساسية في استراتيجية الجزائر لمكافحة هذه الظواهر.
وضمن الرؤية التي يحرص رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، على تكريسها على الدوام، من خلال الانخراط الفعلي في دعم جهود التنمية في دول الجوار وتعزيز التنسيق والتعاون بروح يسودها التضامن من أجل رفع التحديات المشتركة وتسريع وتيرة الاندماج الاقتصادي في المنطقة، شهدت العلاقات مع نيامي مؤخرا تطورا ملحوظا بفضل التعاون المستمر وتبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين بهدف مناقشة سبل تقوية الشراكة الثنائية وتنفيذ المشاريع التنموية المشتركة، أبرزها مشروع البحث والاستكشاف لشركة سوناطراك في النيجر ومشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء وكذا مرافقة النيجر في مشاريعها المتعلقة بإنجاز مصفاة لتكرير البترول ومركب بتروكيماوي في منطقة دوسو وكذا تكوين وتدريب الإطارات النيجرية في مجال المحروقات، ناهيك عن المشاريع في البنى التحتية والتنمية التي تكفلت بها الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي.
وتعكس الزيارات الأخيرة على أعلى مستوى الحرص المتبادل بين الجزائر والنيجر على تعزيز تعاونهما الاستراتيجي في قطاع الطاقة وتأكيد التزام البلدين بالمضي قدما في تنفيذ مشاريع مشتركة تسهم في تحقيق التنمية المستدامة للطرفين.
ومنذ فيفري الماضي تكثفت الاتصالات بين الحكومتين الجزائرية والنيجرية وأفضت إلى تعزيز علاقات التعاون الأخوية والتاريخية بين الجزائر والنيجر، خاصة في مجال الطاقة والمحروقات. كما تم استعراض آخر المستجدات المتعلقة بتنفيذ المشاريع التنموية المشتركة المتفق عليها، التي تشمل مشاريع البحث، الاستكشاف واستغلال المحروقات، إضافة إلى مشاريع التكرير، البتروكيمياء والتسويق وتوزيع المنتجات البترولية ومساعدة الجزائر للأشقاء في بناء محطات إنتاج الكهرباء.
وتسعى الجزائر في إطار مقاربتها في منطقة الساحل الإفريقي لتغليب الآليات السياسية والدبلوماسية والتنموية على الآليات العسكرية في التغلب على التهديدات الأمنية وكذا إدارة المخاطر في إطار تصور يجمع ما بين الجانب الأمني والإنساني، سعيا لتفعيل منطق الأمن الإنساني وتجسيد مبدأ الدبلوماسية الإنسانية القائمة على احترام حقوق الإنسان كمدخل لتفعيل وتحقيق الأمن الوطني والجهوي على حد سواء.
إشادة دولية
تحظى جهود الجزائر في الساحل بإشادة دولية، حيث ثمن المتدخلون في اجتماع رفيع المستوى لمجلس الأمن الأممي حول مسألة مكافحة الإرهاب في إفريقيا، شهر جانفي الماضي، دور رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في قيادة جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا.
وشهد الاجتماع مشاركة قرابة 70 وفدا يتصدرهم وزراء خارجية دول من داخل وخارج القارة الإفريقية، على غرار الصومال، سيراليون، ناميبيا، رواندا، أنغولا، أوغندا، جنوب السودان، إندونيسيا وبنما، فضلا عن مسؤولين سامين بالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
وقد أشاد كافة الوزراء الأفارقة المشاركون في أشغال هذا الاجتماع بجهود الجزائر في قيادة المساعي القارية في ميدان مجابهة هذه الآفة، مؤكدين على أن تجربة الجزائر الرائدة قد ألهمت بشكل واسع مختلف أبعاد العمل الإفريقي المشترك في مجال مكافحة الإرهاب.
كما نوه المتدخلون بمبادرة الجزائر بعقد هذا النقاش الذي يرمي إلى دق ناقوس الخطر بشأن التنامي المقلق للإرهاب في إفريقيا والتأكيد على الحاجة الملحة لإحياء الاهتمام الدولي بمواجهة هذا التهديد الذي أصبح يتربص بالسلم والأمن والتنمية في كافة ربوع القارة.
وخلال الإحاطة التي قدمها لأعضاء مجلس الأمن حول موضوع الاجتماع، أعرب مفوض الشؤون السياسية والسلم والأمن في الاتحاد الإفريقي، السفير بانكولي أديوي، عن خالص تقديره لرئيس الجمهورية، رائد مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف في إفريقيا، نظير قيادته المقتدرة لجهود الاتحاد الإفريقي في هذا المجال ودعمه المتواصل للمساعي الجماعية ذات الصلة المنبثقة عن "مسار وهران".
من جانبها، عبرت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة، أمينة محمد، عن خالص تقديرها لحرص الرئاسة الجزائرية على الربط بين المسائل الأمنية والتنموية وكذا السياسات القائمة على حقوق الإنسان في صياغة الجهود الإفريقية لمكافحة الإرهاب.
وفي الكلمة التي ألقاها بهذه المناسبة، عرض أحمد عطاف مقاربة الجزائر في ميدان مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف في إفريقيا، التي تستوجب معالجة تجليات هذه الظاهرة وأسبابها الجذرية على حد سواء وتتطلب مراعاة مختلف الجوانب الإنمائية والأمنية بصورة متناسقة ومتكاملة.
كما أكد وزير الدولة أن مكافحة الإرهاب في القارة تقتضي دعم المجموعة الدولية لجهود الاتحاد الإفريقي ودوله الأعضاء، كون نجاح إفريقيا في كسب الرهان سيكون في صالح المعمورة قاطبة وفشلها سيضر العالم بأسره.
من جانبه اعتبر رئيس رابطة علماء ودعاة وأئمة الساحل، الدكتور أبو بكر والر، أن العديد من الدول الإفريقية استفادت من تجربة ودعم الجزائر لتخطي أزماتها كدولة التشاد التي عملت بالمقاربة الجزائرية لتحقيق الصلح والمصالحة، داعيا كل الدول التي تعيش أزمات أن تتبناها وتعتمد الحوار الوطني والمصالحة بدل حلول القوة أو الحلول العسكرية وعدم الوثوق في الجهات والقوى الأجنبية التي لا تريد الخير للمنطقة كفرنسا التي بدأ نفوذها وتواجدها في المنطقة ينتهي بفضل صحوة شعوبها وحرص رابطة علماء ودعاة وأئمة الساحل. جاء ذلك خلال الملتقى الثاني عشر للرابطة الذي انعقد بالجزائر قبل أشهر، تحت شعار "رهانات التنمية والسلم في الساحل الإفريقي".
الدبلوماسية الاقتصادية الجزائرية في خدمة المنطقة
أشاد الأمين العام لمنتدى الدول المصدرة للغاز، محمد حامل بأبوجا، على أهمية مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، باعتباره نموذجا يحتذى به في مجال التعاون الطاقوي العابر للحدود في إفريقيا، مشيرا إلى المجهود الكبير التي تقوم به الجزائر ولاسيما عبر وزارة الطاقة والمناجم من أجل تجسيد هذا المشروع في أقرب الآجال.
وفي كلمة له خلال جلسة نقاشية نظمت في إطار قمة نيجيريا الدولية للطاقة، مطلع الشهر الجاري، اعتبر المتحدث جهود التعاون الإقليمي في مجال الطاقة خطوة مهمة في هذا المجال، وعلى وجه الخصوص ما يتم في إطار الشراكة بين الجزائر والنيجر ونيجيريا من أجل إنجاز مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، وقال إن هذا المشروع يمثل "نموذجا لتحفيز الاستثمارات عبر الحدود".
ولفت حامل في سياق ذي صلة إلى الدور الاستراتيجي لمشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء في ربط العديد من الدول المنتجة والمستهلكة للغاز في إفريقيا وأوروبا، مشددا على ضرورة تكثيف الاستثمارات في البنية التحتية للطاقة في إفريقيا.
كما ذكر الأمين العام للمنتدى، في هذا الشأن، أنه من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على الغاز الطبيعي بنسبة 32 بالمائة بحلول منتصف القرن، مؤكدا أنه يتعين على إفريقيا، التي تمتلك أكثر من 8 بالمائة من الاحتياطيات العالمية المؤكدة من الغاز، أن تستغل هذا المورد من أجل دعم نموها الاقتصادي وتعزيز أمنها الطاقوي.
ومن الناحية المقابلة، سلّط الأمين العام لمنتدى الدول المصدرة للغاز الضوء على إعلان الجزائر الذي اعتمد في القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى الدول المصدرة للغاز، معربا عن دعمه القوي للدول الإفريقية في جهودها الرامية إلى مكافحة الفقر الطاقوي، توسيع نطاق الولوج إلى الطاقة، تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة والمنصفة والشاملة، بما يتماشى مع أجندة 2030 للأمم المتحدة وأجندة 2063 للاتحاد الإفريقي.
وبفضل الدبلوماسية الاقتصادية الجزائرية ووزارة الطاقة والمناجم يسير المشروع بوتيرة متسارعة، حيث وقّع البلدان الثلاثة قبل أيام اتفاقيات تسمح بتسريع إنجازه، يتعلق الأمر بعقد خاص بتحيين دراسة الجدوى للمشروع وعقد التعويض واتفاقية "عدم الإفصاح" بين شركات الطاقة للدول الثلاث، موازاة مع التوقيع على عقد التعويض واتفاقية عدم الإفصاح من طرف الرئيس المدير العام لمجمع سوناطراك، رشيد حشيشي، ونظرائه من نيجيريا والنيجر.
تعاون دولي
على الصعيد الدولي، أعربت عدة دول أوروبية متوسطية عن رغبتها في تعزيز التعاون مع الجزائر في مجال مكافحة الإرهاب، حيث ثمن السفير الإسباني في الجزائر، فرناندو موران، دور الجزائر المهم في محاربة الإرهاب وفي ضمان استقرار دول المنطقة، جميعها كما أعربت النرويج والبرتغال وإيطاليا والولايات المتحدة عن رغبتها في التعاون مع الجزائر.
وفي الفترة الأخيرة شهد التعاون الأمني بين الجزائر وواشنطن حركية جديدة، تجلّت في الزيارات الخمس التي قام بها قائد القيادة العسكرية الأمريكية بإفريقيا "أفريكوم"، الجنرال مايكل لانغلي، إلى الجزائر، التي توّجت آخرها بتوقيع مذكرة تفاهم بين وزارتي الدفاع، وذلك عقب يومين من تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.
وأكد لانغلي عقب استقباله من قبل رئيس الجمهورية أن "المذكرة ستسمح ببناء وتعزيز أكبر للعلاقة العميقة بين البلدين، ولهذا سنقوم بتعزيز الأمن والسلام الإقليمي والدولي"، مضيفا أن "الجزائر بلد رائد في المنطقة، وكل الدول الأخرى ستستفيد من ذلك".
شراكة حقيقية
تبحث الجزائر عن شراكة حقيقية في مواجهة الإرهاب في الساحل، حيث وجّه ممثل الجزائر بالأمم المتحدة، عمار بن جامع، قبل أشهر، نداء عاجلا إلى الخبراء التابعين للأمم المتحدة لزيارة البلدان الأكثر ضعفا والأكثر تأثرا بالإرهاب في منطقة الساحل.
وتضمنت نبرة حديث بن جامع لوما وجهه إلى الأمم المتحدة وهياكلها، فهي في نظر الجزائر لا تولي الأهمية اللازمة للأوضاع جنوب الصحراء، بالنظر إلى الإرهاب الذي استشرى في المنطقة والانقلابات العسكرية التي وقعت بها في السنوات الأخيرة، وهو ما زاد من تفاقم الوضع.
وقال بن جامع: "في إفريقيا، نرى يوما بعد يوم كيف يستغل الفقر المدقع واليأس لتغذية التطرف، ونرى مؤسسات ضعيفة تتعرض للاختراق وغياب فرص العيش الكريم، الأمر الذي حوّل المنطقة إلى أرض خصبة للتطرف".
ودعا بن جامع إلى مواجهة هذا الوضع المقلق وإلى تقديم دعم ملموس للدول الأكثر ضعفا "فلا وعود، بل موارد، ولا شروط، بل تعاون، لا مزيد من الدروس، بل شراكة حقيقية في مكافحة الإرهاب". وتنتمي الجزائر إلى منطقة جنوب الصحراء التي لها حدود مع مالي والنيجر، حيث ينشط متطرفون وإرهابيون، وفي العقود الأخيرة واجهت تنظيمات إرهابية كثيرة، أهمها القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي.
وحول هذا الموضوع، قال بن جامع في كلمته منتقدا عمل الهياكل الدولية لمكافحة الإرهاب "لقد حاربنا الإرهاب بمفردنا في تسعينات القرن الماضي، وهذه التجربة علمتنا أن نهج مجلس الأمن غير قابل للاستدامة"، داعيا إلى إعادة هيكلة النظام الحالي، في إشارة إلى أن الخطة المتبعة من طرف مجلس الأمن، بخصوص محاربة الإرهاب، غير مجدية في نظر الجزائر.