
38serv
بعث رئيس المجلس الشعبي الوطني إبراهيم بوغالي، بشكل رسمي، النقاش حول قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، في تحول جذري في الموقف من هذا التشريع، خصوصا في ظل توقف مساعي مصالحة الذاكرة بين البلدين.
ويعد هذا الموقف الذي يأتي في وقت ترتفع في فرنسا أصوات تروج للدور الإيجابي للاستعمار منسجما مع الرغبة التي تظهرها أحزاب سياسية ومنظمات الأسرة الثورية وناشطون حقوقيون لأجل استصدار تشريع يجرم الاستعمار، علما أن فرنسا نفسها لم تتردد في استصدار قانون يعرف بقانون 23 فيفري 2025 يروج للدور الإيجابي للاستعمار وأمجاد فرنسا في مستعمراتها السابقة، خصوصا الجزائر، وتظهر في الأعوام الأخيرة توجها لإعادة الاعتبار لرموز الإبادة في الجزائر، سواء الجنرال بيجو مرتكب وموجه عمليات محو قبائل جزائرية من الوجود أو إعادة الاعتبار للدموي جون ماري لوبان الذي فارق الحياة خلال شهر جانفي الماضي، حيث حظي بتكريم سياسي من رموز في الحكومة الفرنسية الحالية.
وظهرت المحاولات الأولى لاستصدار تشريع لتجريم الاستعمار في 2001، حيث اقترح ابن الشهيد محند أرزقي فراد المدعوم بمجموعة النواب المنشقين عن أحزابهم في تلك الفترة ونواب في حركة مجتمع السلم قانونا لتجريم الاستعمار جاء في ثلاث مواد، نصت مادته الأولى على اعتبار العمليات العسكرية الفرنسية التي استهدفت الشعب الجزائري في حياته وسيادته وكرامته وحريته جرائم ضد الإنسانية، فيما نصت المادة الثانية على أن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر لا تخضع لقاعدة التقادم. وتكرس المادة الثالثة مطلب التعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الجرائم المذكورة في المادة الأولى المذكورة أعلاه، كحق للدولة الجزائرية والجمعيات والأفراد.
ورحل النائب أزرقي فراد عن المجلس دون أن يأخذ مشروعه مساره التشريعي بسبب اعتراضات على مستوى المكتب والكتل البرلمانية والسلطات السياسية في تلك الفترة التي شهدت تطبيعا متسارعا للعلاقات الثنائية مع فرنسا والترويج لكونه منافيا لاتفاقيات إيفيان التي لا يتحرج الجانب الفرنسي بالتهديد بإلغائها.
وفي أواخر العهدة الموالية 2002-2007 جرى بعث المحاولات لاستصدار التشريع الجديد قبل تطوره في العهدة 2007-2012 بنضوج أرضية لإنجاز مقترح رعاه ابن شهيد ونائب عن حزب جبهة التحرير الوطني، موسى عبدي، بدعم حوالي 120 برلمانيا .
وعلى خلاف المقترحات السابقة تمكن المشروع من الوصول إلى الحكومة لإبداء الرأي فيه، ولكن مصيره لم يختلف عن سابقه، حيث كان مصيره الرفض بذريعة آثاره السلبية على العلاقات الجزائرية الفرنسية.
ونص المقترح المكون من 20 مادة على "إنشاء محاكم مختصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الاستعمار أو ملاحقتهم أمام محاكم دولية" و"تجريم الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي قام بها في الجزائر"، واسترجاع الأرشيف الجزائري الذي استولت عليه فرنسا.
فترة ركود
وتراجعت همة النائب عبدي بعد إعادة انتخابه في 2012 إذ لم يعد للمشروع نفس الصدى السياسي، خصوصا بعد معارضة السلطات ومغادرة أغلب مؤيدي المبادرة للبرلمان. وفي 2019 انتعشت المساعي بإطلاق مبادرة قادها النائب كمال بلعربي تحمل نفس الهواجس من المطالبة بتجريم الاستعمار الفرنسي وجرائمه في الجزائر ودعوة الدولة الفرنسية للإقرار بهذه الجرائم وتقديم الاعتذار والتعويضات المناسبة. وتفيد مسودة القانون بأن "طلب اعتراف فرنسا بجرائمها وأفعالها إبان احتلالها للجزائر من سنة 1830 إلى 1962 والاعتذار عنها حق مشروع للشعب الجزائري غير قابل للتنازل".
ويشدد مشروع القانون على "مسؤولية الدولة الفرنسية عن كل الجرائم التي ارتكبتها جيوشها في حق الشعب الجزائري إبان احتلالها، ومسؤولية الأفعال الإجرامية المذكورة لا تتقادم كجرائم الإبادة الجماعية، جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وآثارها مستمرة حتى الآن كالألغام المزروعة على طول الحدود الشرقية والغربية، والإشعاعات النووية في صحرائنا الكبرى، ومجازر الثامن ماي 1945". ولم يكن المشروع أحسن حظا من سابقيه إذ لم ينل الاهتمام السياسي والتشريعي باستثناء التغطية الإعلامية.
وفي مستهل العهدة النيابية الجديدة 2021-2026 جرى إحياء المساعي بقيادة نواب حركة مجتمع السلم المساندين من قبل 40 برلمانيا من كتل أخرى بما فيها الموالاة، بإطلاق مقترح يكرس إدانة الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي ارتكبها واسترجاع الحقوق المسلوبة المعنوية والمادية على حد سواء جراء العدوان المسلح على الشعب الجزائري منذ 14 جوان 1830 حتى الاستقلال. ويشدد القانون على المعاقبة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامات مالية لكل من يقوم بتمجيد الاستعمار الفرنسي في الجزائر بأي وسيلة من وسائل التعبير.
وحمل القانون "الدولة الفرنسية المسؤولية كاملة عن الجرائم التي ارتكبتها الجيوش الفرنسية وعملائها طيلة فترة الاستعمار بصفتها جرائم ضد الإنسانية، كـالتفجيرات النووية والإبادة الجماعية وحقول الألغام وجريمة الألقاب المسيئة وسرقة الممتلكات والتراث الوطني". ويعتبر أن جرائم الاستعمار الفرنسي لا تخضع لمبدأ التقادم ولا لقوانين العفو، وفقا لمقتضيات القانون الدولي الإنساني، محتفظا بمطلب التعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الجرائم الاستعمارية.
ونص المشروع على "تأسيس شرط الاعتراف والاعتذار، قاعدتين في التعامل في العلاقات الجزائرية الفرنسية. ويعتبر الاعتراف والاعتذار والتعويض حقوقا مشروعة للشعب الجزائري وغير قابلة للتنازل"، كما "يلزم الدولة الجزائرية بعدم التوقيع على أي اتفاقية أو معاهدة مع الدولة الفرنسية حتى استيفاء كل الشروط الواردة في القانون". ويؤكد القانون مسؤولية سعي الدولة الجزائرية لإلزام الدولة الفرنسية بالاعتراف بماضيها الاستعماري في الجزائر، إضافة إلى إلزامها بالاعتذار وتقديم تعويضات عن الجرائم والمآسي في حق الشعب الجزائري، كما "يلزم الدولة الجزائرية، كشرط للتوقيع على أي معاهدة أو اتفاقية مع فرنسا، بإلغاء كل النصوص الفرنسية التي تمجد وتؤيد سلوك الهمجية الاستعمارية".
باب المصالحة لن يبقى مفتوحا
وعلى المستوى الرسمي، اختارت الحكومات المتوالية خطابا متناسقا يدعو فرنسا للاعتراف بجرائمها ومحاولة فتح منافذ لإجراء حوار يسهل مصالحة تاريخية، وهو ما ترجمه الرئيس عبد المجيد تبون عبر مسايرة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون وانتزاع تنازلات رمزية دون تغيير الدفة، وهو ما عبر عنه خطابه إلى الأمة في 29 ديسمبر، حيث أكد أن الجزائر لا تنتظر من فرنسا إلا الإقرار بأفعالها ضد الجزائريين .
وانطلق مسار تفاوضي مع فرنسا حول ملفات نزاعية في عهد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، التي تشكلت في عهد فرق عمل حول مفقودي حرب التحرير بين الجانبين.
تم في هذا المسار في 2020 استرجاع جماجم 24 من قادة الثورات الشعبية ودفنهم والحصول على اعتراف فرنسي رمزي بالمسؤولية عن أعمال إعدام وتصفية محامي جبهة التحرير علي بومنجل والشهيد العربي بن مهيدي وموريس أودان.
وفي 2023 تشكلت لجنة خبراء من مؤرخين في البلدين عملت على إفشال السبل لإنجاز ما اصطلح عليه مصالحة الذاكرة والتي أنجزت في مرحلة أولى تسليم مليوني وثيقة من الأرشيف، قبل أن تتوقف أعمالها متأثرة بالخلافات التي تفجرت في الأشهر الأخيرة.