ضحايا الغاز يتواطؤون مع قاتلهم!

+ -

تتناقل وسائل الإعلام الوطنية، يوميا، أخبارا عن ضحايا الاختناق بغاز أحادي أكسيد الكربون، ولعلّه من غير الممكن عدّ كل تلك المقالات والحصص والدوريات التوعوية بضرورة التفطن لخطر "القاتل الصامت"، وكل تلك الجهود الحكومية الرامية إلى تقليص عدد الضحايا، إلا أن الوضع المقلق بتزايد عدد حالات الاختناق يستدعي فعلا الوقوف عند حقيقة أن "إهمال الكثير من المواطنين لشروط الوقاية والسلامة والاستهتار بجودة الأجهزة وكفاءة اليد العاملة المسؤولة عن تركيب الغاز، يعد تواطؤا مع قاتلهم".

 في سبيل تنفيذ برامج الوقاية من مختلف أخطار حوادث الاختناق بالغاز، وتخفيف وطأتها والآثار الناجمة عنها، تقوم العديد من مؤسسات الدولة، على غرار وزارتي الداخلية، والصحة، مؤسسة سونلغاز، وأجهزة الحماية المدنية، الأمن والدرك وغيرها، بإطلاق سلسلة من المبادرات التحسيسية تتمثل في عمل جواري مكثّف، في إطار تحملها لمسؤولياتها الاجتماعية تجاه المواطن من أجل التوعية والتأثير على السلوكيات السلبية التي تؤدي إلى هذه الحوادث المميتة.

 لكن بالرغم من كل هذا العمل الجبار الذي تقوم به إطارات الدولة من أجل الحد من هذه الكوارث، إلا أن الأرقام التي يتم تسجيلها يوميا، وفي مختلف ربوع الوطن، بشأن ضحايا "القاتل الصامت"، تستدعي الوقوف عندها، والبحث عن الأسباب الكامنة وراء تكرّر نفس سيناريو هذه الحوادث يوميا، مع اختلاف الضحية ومكان تواجده فقط. ففي سنة 2024، سجلت المديرية العامة للحماية المدنية، حصيلة ثقيلة لحوادث الاختناق بالغاز، بـ114 حالة وفاة على المستوى الوطني، حسب ما أفاد به المدير الفرعي للإحصائيات والإعلام بالمديرية العامة للحماية المدنية، النقيب نسيم برناوي، في وقت سابق.

 واعتبر برناوي أنه "وبالرغم من الحملات التحسيسية الاستباقية للجهاز، إلا أن غاز أحادي أكسيد الكربون لا يزال يحصد المئات من أرواح الجزائريين، إذ تم تسجيل 114 حالة وفاة وإنقاذ حياة 2178 شخصا، تم إسعافهم ونقلهم إلى المستشفى خلال سنة 2024".

 لم يعد الأمر، اليوم، يتعلّق بعدم المقدرة على الوصول إلى مواطن يعيش في منطقة نائية، فالعديد من الحالات يتم تسجيلها في كبريات المدن، على غرار العاصمة ووهران وقسنطينة وسطيف، ولم يعد الأمر يتعلّق بغياب قنوات الاتصال التي هي اليوم مفتوحة أكثر من أي وقت مضى، على التوعية وتزويد الجمهور المستهدف بالمعلومات والمهارات الضرورية.

 إن المتتبع للوضع المقلق بشأن تزايد حالات الاختناق بالغاز، يمكنه ملاحظة أمرين اثنين رئيسيين، بعيدا عن فكرة التوعية وجهود التحسيس، إذ يتعلّق الأول بالوسائل المتاحة ونوعية المواد المستخدمة لغرض تثبيت نظام توزيع الغاز داخل المساكن، وهو ما بات يتطلب رقابة صارمة على المنتجات المتوفرة في السوق الوطنية، فيما يتعلّق الثاني باليد العاملة التي توكل لها مسؤولية تثبيت هذا النظام وتركيب أجهزة التدفئة والتسخين داخل المنزل.

 وحتى عند تثبيت أو إعادة تثبيت نظام الغاز في البيوت، يولي العديد من المواطنين أهمية بالغة بالجانب الجمالي، على حساب الحماية من الأخطار الناجمة عن سوء تركيب الأجهزة وعدم احترام شروط السلامة وقياسات الأمان، فمسألة الديكور أصبحت اليوم أكثر أهمية من تأمين البيت من خطر الغاز.

 وإن كان القائم بأشغال التركيب والتثبيت غير كفؤ لمثل هكذا مهمة دقيقة، نجد النتيجة وخيمة جدا، وهنا تجدر الإشارة إلى خطر كبير بات يواجه المواطنين في الأحياء السكنية الجديدة خاصة، وهو إلغاء السكان منافذ الغاز أو المدخنة الجماعية التي تكون مسؤولة عن إخراج الغاز في الطوابق العلوية والوسطى، ما يتسبب في كوارث حقيقية لجيرانهم في الطوابق السفلى، الذين لا يعلمون غالبا بالتعديلات الطارئة "بغير وجه حق" على الأجزاء المشتركة.

 

 ممارسات غير مسؤولة وغير معقولة

 

يؤكد محمد الأمين، وهو تقني مؤهل في مجال الغاز بالجزائر العاصمة، أن غالبية التدخلات الميدانية التي يقوم بها مع زملائه في إطار عمله، تبيّن وجود خلل في التعامل مع المادة، لاسيما من حيث إجراءات الوقاية، وحتى في مواصفات الأمان للعديد من الأجهزة المستعملة لغرض التدفئة والتسخين، وسلوكيات أخرى من قبل المواطنين يعجز العقل عن تصديقها. "

وجدنا عائلة، قبل أسبوع، عمدت إلى إشعال الطابونة لغرض التدفئة لليلة كاملة، فيما اختارت أخرى فتح أقفال موقد الطهي في ظل عدم توفر الأجهزة المناسبة، فيما يقومون بغلق جميع منافذ التهوية حتى تلك المتواجدة أسفل الأبواب بالمناشف وهذا غير معقول إطلاقا"، يقول محدّث "الخبر"، وهو يحاول أن يوصل إلينا حجم الإهمال الكبير من طرف العديد من المواطنين لمسألة الوقاية من أخطار الغاز: "نقف غالبا عاجزين عن تفسير بعض التصرفات غير المسؤولة، رغم علم الجميع بأن غاز ثاني أكسيد الكربون لا رائحة له".

ويضيف التقني الذي قضى ما يقارب الـ10 سنوات في المجال، بالقول: "الكثير من المنازل لا تخضع لشروط السلامة، إن الإجراء المتخذ من قبل السلطات بوضع كواشف الغاز في البيوت سمح بالوقوف على كوارث وقنابل موقوتة كانت تنتظر دورها للانفجار، أناس يعمدون لتثبيت أنظمة الغاز وحتى الأجهزة الخاصة بالتدفئة أو تسخين الماء بمفردهم لتوفير تكاليف التثبيت "، ويأتي هذا - يضيف المتحدث - "دون الحديث عن نوعية المواد المستخدمة والبريكولاج من قبل بعض أشباه المهنيين غير المؤهلين والذين يتسببون في تعريض حياة الناس للخطر، فحتى إن كان بطلب من الزبون لا ينبغي أبدا الموافقة على استخدام مواد غير آمنة وغير موافقة لشروط السلامة، أو تثبيت نظام غير صحيح، إن هذه مهنة لا تقبل التعاطف أو استصغار الأخطار".

 

"بات من الضروري تركيز برامج التوعية على البعد النفسي"

 

 من جهته، يرى أستاذ علم النفس، البروفيسور أحمد ڤوراية، أن عملية التحسيس والتوعية من جميع المخاطر المحيطة، لاسيما المتعلقة بحوادث الاختناق بالغاز، تشترط الفهم الصريح والبسيط من قبل المتلقي للرسالة التي يراد لها أن تلبي غاية الإدراك لدى مختلف شرائح المجتمع على اختلاف مستويات الفهم لديهم. ويقول البروفيسور، في حديث مع "الخبر"، إنه "أمام عجز الكثير من الأفراد عن تفكيك المفاهيم التي تتضمنها عمليات التحسيس والتوعية، وصعوبة الوصول إلى النتائج الصفرية للحوادث الناجمة عن هذه المخاطر، يصبح لزاما تغيير هذه البرامج التي تقوم عليها رسائل التوعية إلى أخرى قائمة على البعد النفسي بالدرجة الأولى".

 وفي هذه القضية يفصّل البروفيسور بأن "عقلية الجزائري وذهنيته، ومن خلال الدراسات التي قمنا بها، أثبتت أن الأخير يكون مستعدّا أكثر للفهم والإدراك حينما يضيق به الأمر أو في حالة إثارة مشاعر الخوف لديه"، مشيرا إلى "فاعلية الرسائل الإعلامية - لاسيما المصورة منها، لما للصورة من آثار قوية باقية في عقل الإنسان - التي تحمل مشاهد تحرّك مشاعر الخوف لدى المتلقي من الهلاك".

 "إن الفيديو أو الشريط الذي يحمل مشاهد هلاك الإنسان، جراء مختلف الحوادث المحيطة به، يمكنه التأثير بشكل كبير جدا، وذلك من خلال الرسائل التي يعطيها الدماغ للجانب النفسي للمتلقي، الأخير الذي يرتعب عمقه ويجبره على التعلم والاستجابة، خوفا من ذلك المصير"، يقول الأستاذ.

 ويضيف محدث "الخبر" بالقول: "بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نعمل على التحسيس والتوعية بمخاطبة الوجدان والذكاء العاطفي قبل العقل والدماغ، حتى نحسن ما يمكن تحسينه، ونطور الفرد الفاشل في الفهم إلى مستوى يسمح له باستيعاب الأخطار المحدقة به". كما تطرّق محدّث "الخبر"، إلى جانب الردع الذي يرى بأنه "ثاني طريقة ناجعة يمكن الاعتماد عليها بعد التحسيس والتوعية، وهو الذي من شأنه إجبار الإنسان على التعلّم من أخطائه خاصة ".