إننا في زمن صارت الشهرة فيه حلم كثيرين، والوصول إليها هدف العديد من الناس. في سبيلها يجهدون!، وفي طريق بلوغها يتعبون!، وفي بحر سحرها يغرقون!، وفي سبيل نيلها يضحون!. يحسبون من ظفر بها دخل الجنان، ومن كان من أهلها عاش السعادة التي لا تحول ولا تزول!.
نعم إنه وَهْمٌ كبير أو حلم لذيذ استطاعت وسائل الإعلام والإشهار أن تخدع به قطيعا هائلا من البشر!، فكم من جاهل صار داعية عالما!، وكم من صعلوك أو صعلوكة صار ذا قدر أو ذات قدر!، وكم من فاسق فاجر أو فاسقة فاجرة صار يُشار إليه أو يشار إليها بالبنان!، وكم من نكرة صار ذا شأن!، وكم من قزم صار عظيما!. وكم من فارغ أو فارغة صار لهم أتباع ومعجبون ووو... ولا عجب في زمن الأعاجيب!.
ولكن الأسوأ أن خداع الشهرة اقتحم مجال العلم والدعوة، فالبشر أشبه ببيئاتهم منهم بآبائهم، فلا جرم أن نجد من نشأ في زمننا هذا الذي للشهرة فيه وللمشهورين بريق وبهرج، ولوسائل الإعلام والإشهار سطوتها في تشكيل قناعات الناس وميولاتهم وأذواقهم، نجده يوازن بين العلماء ويفاضل بميزان الشهرة والصيت. فالعالم الذي يقول الحق ويمثله، ولا يخطئ الصواب ولا يخطئه هو العالم صاحب الصيت الذائع والذكر الشائع!. فشهرته دليل على علمه، وشهرته شهادة كافية على تفوقه، فما اشتهر اسمه وانتشر ذِكره إلا لسبب ولأمر، وهو تحققه بالعلوم وتبريزه على أقرانه وبني زمانه!. وهذه سذاجة ما بعدها سذاجة ولكنها صنعت مرجعيات وهمية، خضعت لرقابها الشعوب وسارت في ركابها الجموع!.
والحقيقة غير ذلك، فكم هم الذين اشتهروا بالعلم والدعوة ليس لعلمهم ولا لتحقيقهم، بل لأسباب أخرى لا علاقة لها بالعلم والتحقيق. فكثيرون هم الذين صنعتهم الفضائيات وروجت لهم، وأفسحت لهم المجال وأعطتهم الفرصة تلو الأخرى حتى أوهموا الناس بأنهم علماء بحق ودعاة بصدق، وليسوا بذاك. والجميع يعلم أن كثيرين من هؤلاء إنما وصلوا لهذه الفضائيات ومختلف وسائل الإعلام بوسطات و(معارف)، ولم يوصلهم علمهم ومستواهم!. هذه هي الحقيقة وإن كانت مؤلمة.
وقد حدث مثل هذا قديما، فاشتهر علماء وصار لهم ذكر وغيرهم أعلم منهم، لكن لا شهرة لهم. فعن الإمام الليث بن سعد رحمه الله قال: رأيتُ أبا الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي المدني وخلفه ثلاث مئة تابع من طالب فقه وشعر وصنوف، ثم لم يلبث أن بقيَ وحده، وأقبلوا على الإمام أبي عثمان ربيعة بن فروخ التيمي المدني، المشهور بربيعة الرأي. وكان ربيعة يقول: شبر من حظوة خير من باع من علم!. وعن الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله قال: قدمتُ المدينة، فأتيت أبا الزناد، ورأيت ربيعة فإذا الناس على ربيعة، وأبو الزناد أفقه الرجلين، فقلتُ له: أنتَ أفقه أهل بلدك، والعمل على ربيعة؟ فقال: ويحك، كفٌّ من حظّ خير من جراب من علم!. وعن الإمام الفاتح أسد بن الفرات رحمه الله أنه كان يقول: أهل المدينة طبقات: الأولى: سعيد بن المُسَيِّب، وسليمان بن يسار، فكان سليمان أفقه الرجلين والذّكر (أي الشهرة) لسعيد. الثانية: ربيعة وعبد الرحمن الأعرج بن هرمز، فكان ابن هرمز أعلم الرجلين والذكر لربيعة. والفرق بين زمنهم وزماننا أن التفاضل في زمنهم كان بين علماء كبار، وفي زمننا صار التفاضل بين أصحاب الشهرة فقط وبين العلماء بحق!.
وعلى كل لا بد أن يكون واضحا جليًا لدينا أن الشهرة لها أسبابها: من حظّ ومواتاة أقدار وظروف، ومن جهات خادمة، ومن مؤسسات داعمة... وشهرة عالم أو داعية لا تعني أنه الأعلم والأخلص والأصدق، فكم من عالم اشتهر وغيره أعلم منه، وكم من عالم اشتهر وخطؤه أكثر من صوابه، حدث هذا في القديم ويحدث هذا في عصرنا. قال الإمام الذهبي عن المحدث هشام بن عمار: عظيم القدر، بعيد الصيت، وغيره أتقن منه وأعدل. وقال عن محمد بن كرام السجستاني المبتدع، شيخ الكرّامية: كان زاهدا عابدا ربانيا، بعيد الصيت، كثير الأصحاب، ولكنه يروي الواهيات كما قال ابن حبان. خُذل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها. وقال عن الامام الحافظ القدوة شيخ الاسلام أبي محمد إسماعيل بن إبراهيم السرخسي الهروي القراب: كان في عدة من العلوم إماما، منها القراءات والحديث والفقه ومعاني القرآن والأدب، وله تصانيف فيها في غاية الحسن... وكان في الزهد والتقلل من الدنيا آية، فلم تجد سوق فضله بهراة نفاقا، كان الصيت إذ ذاك ليحيى بن عمار. واللبيب بالإشارة يَفهَم.
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة