38serv
إن أبرز صورة تظهر حرص الإسلام على إقامة الحرية في هذا الجانب، وتشوق الشارع إلى تحقيقها، هي تصديه لمشكلة الرق، بالرفع له، ومعالجته، وكان ذلك بمنهجين: الأول: برفع الأسباب المؤدية إليه، وهذا مجاله في حفظ الحرية من جانب العدم، الثاني: بمعالجة ما هو واقع منه، وقد جعلت له الشريعة صورا عديدة، منها الإكثار من أسباب رفع الرق، وذلك من خلال جملة الأحكام التي شرعت لهذا الغرض والمتمثلة في فك الرقبة الوارد في الكفارة الواجبة في القتل الخطأ، وتحرير الرقاب الوارد في كفارة الظِّهار، وتحرير الرقبة الوارد في كفارة اليمين الحانثة، وجعله سبحانه وتعالى تحرير الرقاب من المصارف التي تؤدي فيها الزكاة، قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب...} التوبة:60. وكذلك الترغيب في تحرير العبيد، وجعلها من أفضل أعمال البر.
وقد حذت السنة المطهرة حذو القرآن الكريم في الحث على عتق الرقاب والتحريض على فعله، فعن سعيد ابن مرجانة قال سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما استنقَذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار”، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل ذهبت السنة إلى أبعد من هذا عندما جعلت من أعمال الندب والاستحباب عتق العبيد عند نزول الآيات، وقد بوب البخاري في صحيحه تحت كتاب العتق باب ما يستحب من العتاقة عند الكسوف ونزول الآيات.
ولم تقصر الشريعة تحرير العبيد على المسلمين فقط؛ بل جعلت ذلك يمتد إلى اليهودي والنصراني والمجوسي، وإن منعت ذلك في باب الواجبات الشرعية وقصرتها على المسلمين فقط فإنها ندبت إليه من باب التطوع وأعمال البر، حتى تُنَبِّهَ المسلمين إلى أن الحرية ضرورة إنسانية، قال مالك: “ولا بأس أن يُعتَق النصراني واليهودي والمجوسي تطوُّعًا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب...} محمد:4، فالمن العتاقة، أما الرقاب الواجبة التي ذكر الله في الكتاب فإنه لا يُعتَق فيها إلا رقبة مؤمنة”.
الإحسان لمن جعلهم الله تحت أيدينا من العمال والأجراء والخدم وغيرهم في المعاملة وعدم إهانتهم، حتى تحفظ لهم كرامتهم، وهو ما أمرت به الشريعة المسلمين.
ومن آكد الحريات التى حرص الإسلام على إقامتها حرية الآراء والتصرفات؛ لذلك تجد الشارع الكريم قد حكم قاعدة عظيمة، هي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} آل عمران:104، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. من الواضح جدا أن تحقيق هذه القاعدة لا يتم إلا بتحرير الأقوال والآراء من أي ضغط خارجي، مهما كان مصدره، ومهما كانت الظروف الداعية لذلك؛ لأنه من دون هذا العمل سوف تنقلب الحقائق وتعكس الصور، وقد يصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا.
ولقد جسد أئمة الإسلام حرية الرأي واحترام الرأي المخالف في أرقى صورها، فهذا أبو حنيفة رحمه الله يقول: علمنا أن هذا الرأي أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأينا، وعلى هذا النهج سار الأئمة الكرام. واعتبارا لمعنى حرية التصرف اتفق العلماء على اشتراط الاختيار، وإطلاق التصرف في الشخص الذي يباشر عقد البيع وإلا فإن البيع لا يصح.
ولولا اعتبار حرية التصرف في الأقوال والأعمال لما كانت القرارات، والعقود، والالتزامات، وصيغ الوصايا، والوقف، مؤثرة آثارها، ولذلك لا يلتفت إليها متى تحقق أنها صدرت في حالة إكراه، وبناء على هذا ذهب الحنفية إلى أنه لو تعاقد اثنان على عدم الاشتغال في التجارة يكون ذلك العقد غير مقيد؛ لأن حرية الإنسان في اختيار الوسيلة المشروعة لاكتسابه من النظام العام في الإسلام فلا ينبغي تقييدها.
واعتمادا على أصل حرية التصرف، ذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز الحجر على السفيه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة، ويسلم إليه ماله بكل حال، سواء أكان مفسدا أم غير مفسد. وعلى أصل حرية التصرف اتفق علماء المالكية أن الشخص إذا كان مجهول الحال فأفعاله جائزة وماضية؛ لأن الأصل إطلاق حرية التصرف، ويقع الحجر استثناء عند وجود البيذّنة والدليل ولا يقع بدونهما، وقد ذكر القرطبي في هذا السياق أن ولي المحجور إذا تحقق من رشده حُرِّمَ عليه إمساك ماله عنه ويعدّ عاصيا بفعله؛ لأن في هذا العمل خرم لمقصد الشريعة في الأموال المبني على تمكين أصحابها من التصرف فيها بكل حرية ما لم يضيّعوها أو يتجاوزوا بها حدود الشرع.
رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر