يستغرب العاقل حال الشعوب، خاصة العربية والإسلامية منها، في هذه العقود المتأخرة كيف تخضع للطغاة من المستعمرين والمستبدين لسنين طويلة؟ وكيف يرضون بالضيم والظلم منهم وإسرافهم في إذلالهم عقودا من الزمن؟ وكيف يخنعون لإجرام هؤلاء المستعمرين والمستبدين وهم يتفرجون على عربدتهم وتنكيلهم بالأبرياء واحدا تلو الآخر، هتكا للأعراض الشريفة، وإزهاقا للأرواح الطاهرة، وتعذيبا للأنفس البريئة؟ وكل فرد من الشعب ينتظر دوره برضا وتسليم!! فإذا انهزم المستعمر وانقلع المستبد انطلقوا يلعنونهم ويشمتون بهم! هذه النفسية تحتاج إلى دراسات معمقة وجادة وجديدة.
كما يستغرب العاقل حال الشعوب، خاصة العربية والإسلامية منها في هذه العقود المتأخرة كيف يتصورون التغيير والإصلاح؟، ففي الوقت الذي يصبرون على الضيم والهوان لعقود من الزمن ما إن تنفتح لهم بارقة أمل حتى ينطلقوا في المطالبة بإصلاح شامل في وقت قياسي! ويطالبوا بالانتقال بسرعة الضوء أو أسرع من الحضيض الذي كانوا فيه -والذي يحار الحليم في قبولهم به- إلى وضع مثالي يقارب جنة عدن؟! والمفارقة التي تجنن أعقل الناس: أن الشعوب التي استمرأت بشاعة ظلم المستبد وشذوذ طغيانه لعقود تصبح لا تصبر على من يريد الإصلاح لسنوات معدودة بل لشهور؟ ويا ويح هؤلاء الذين يريدون الإصلاح إن لم يحققوا ما تصبوا إليه هذه الجماهير -مما حرمها منه المستبد لعقود - في أيام فقط! سيثورون ضدهم، ويستجيبون لدعوات فلول نظام الاستبداد أو (الطابور الخامس) من خدمة الاستعمار، ويتحالفون معهم لإسقاط المصلحين أو الثوار! لأنهم لم يحققوا أهداف الثورة والإصلاح في ساعات أو أيام! وكأنها ليست ذات الشعوب التي خضعت لعقود وطبعت مع الفساد والاستبداد لسنوات طوال! رأينا هذه الحال في مصر، ورأيناها في تونس، ورأينا بوادرها في حلب بعد فتحها بالمطالبة بتوفير رغيف الخبز! ورأيناها من شعوب كثيرة عبر التاريخ!
هذا الوضع الغريب العجيب هو تراوح بين ما يرمز إليه خاتم سيدنا سليمان عليه السلام في المخيال الشعبي وبين ما ترمز إليه عصا سيدنا سليمان عليه السلام في السياق القرآني المعجز. ذلك أن خاتم سيدنا سليمان عليه السلام ورد في حديث ضعفه أكثر العلماء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تخرج الدابة، ومعها خاتم سليمان بن داود، وعصا موسى بن عمران عليهما السلام، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم..” رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الإمام الترمذي وصححه الشيخ أحمد شاكر، وضعفه غيرهما من العلماء، وواضح أن الحديث ذكر الخاتم فقط ولم يضف إليه أي قوى عجائبية، ولكن شاع عند العوام معتقد اليهود فيه، حيث يزعمون أن قوة ملك سيدنا سليمان عليه السلام الفريد تكمن في هذا الخاتم، ونحن نعلم أن الله تعالى أكرم نبيه سليمان عليه السلام بملك لم يؤتِ أحدا مثله إجابة لدعائه الكريم: {قَالَ رَبِّ اغفِر لِي وَهَب لِي مُلكا لَّا يَنبَغِي لِأَحَد مِّن بَعدِي إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ فَسَخَّرنَا لَهُ الرِّيحَ تَجرِي بِأَمرِهِ رُخَاءً حَيثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاص وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصفَادِ هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَٱمنُن أَو اَمسِك بِغَيرِ حِسَاب وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلفَى وَحُسنَ مَـَٔاب}، فهذا أمر الله العظيم سبحانه وتعالى ولا علاقة لخاتم سليمان بهذا الملك الرباني كما تزعم اليهود، قال الإمام الآلوسي رحمه الله في تفسيره: “إنّ أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام، ويستبعد جدا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك الخاتم. وعندي أنّه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لذكره الله عز وجل في كتابه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال”، ولكن للأسف الخرافات اليهودية ما تزال معششة في عقول كثير من المسلمين، ومنها هذه الفكرة: أن سليمان عليه السلام كان يفعل الأمور العجيبة بقوة في خاتمه، فصار من يُطلب منه فعل شيء كبير يقول: لا أملك خاتم سليمان!، ومن وحي هذه الخرافة جاء عنوان هذه المقالة للتعبير عن حال الشعوب العربية والإسلامية التي ترجو تغييرا وتتمنى إصلاحا ولكن بفكر خرافي لا يؤمن بالتدرج، ونفسية خرافية غير مستعدة للبذل ولا أن تغير نفسها أولا، وهذا من أعجب العجب!، كيف ننتظر أن تنصلح حالنا لكن دون أن نغير شيئا في نفسياتنا وذهنياتنا وسلوكنا، والله عز شأنه يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}؟! كيف تتحسن حالنا وتصلح أوضاعنا دون أن نبذل شيئا ولا نتعب ولا نصبر ولا نضحي ولا نعمل شيئا؟! طبعا ننتظر من يملك خاتم سليمان يغير حالنا إلى قريب من حال أهل الجنة أو مثيل لحالهم في لحظة وطفرة! وهيهات هيهات.
وفي مقابل هذا يذكر الله تعالى في كتابه موقفا عظيما يفسر لنا حال الشعوب عامة والعربية والإسلامية منها خاصة في خضوعها للاستعمار والاستبداد، وذلكم قوله تعالى: {وَلِسُلَيمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهر وَرَوَاحُهَا شَهر وَأَسَلنَا لَهُ عَينَ القِطرِ وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعمَلُ بَينَ يَدَيهِ بِإِذنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغ مِنهُم عَن أَمرِنَا نُذِقهُ مِن عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ . يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحاَٰرِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَان كَٱلجَوَابِ وَقُدُور رَّاسِيَاتٍ اعمَلُوا ءَالَ دَاوُۥدَ شُكرا وَقَلِيل مِّن عِبَادِيَ الشَّكُورُ . فَلَمَّا قَضَينَا عَلَيهِ المَوتَ مَا دَلَّهُم عَلَى مَوتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرضِ تَأكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّو كَانُوا يَعلَمُونَ الغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ}، [دابة الأرض هي: الأَرَضَة. ومِنسَأَتَهُ: هي عصاه]، فالجن ذلك الخلق العجيب بقدراته العظيمة مقابل قدرات الإنسان، بقي خاضعا رغم موت سليمان عليه السلام، وذلك أنّ سيدنا سليمان كلفهم بأعمال يقومون بها، ووقف في محرابه يصلي متوكِّئا على عصاه، فمات، ولكنه بقي واقفا مستندا للعصا، ومكث على تلك الحال عاما كاملا، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته؛ لأن العصا كانت تسنده، والعصا رمز للقوة التي يؤدب بها من خالف الأوامر، وسطوتها على النفوس تبقى حتى مع موت صاحبها، ولما أكلتِ الأَرَضُةُ عصاه خرَّ فعلموا بموته، وانطلقوا. فما أمسكهم وأخضعهم إلا رهبتهم لسليمان عليه السلام وعلمهم بعظم ملكه وعظيم قدراته التي خصه الله تعالى بها، وحالهم النفسية من الرهبة والخضوع هي ما كان وراء خنوعهم واستسلامهم لحكم سيدنا سليمان حتى بعد موته، وهكذا الشعوب رهبتها وخوفها من بطش المستبد والمستعمر هما ما يكون السبب للخنوع وقبول إذلاله لسنوات، ولو كان حكم هؤلاء المستبدين والمستعمرين في حكم الموات يستند على عصا ضعيفة.
وكل شعب استمرأ الخوف والرهبة وتطبع مع الذل والاستسلام والخنوع سيكون لعبة في يد جلاديه، يذيقونه سوء العذاب حسب ما يحلو لأهوائهم وما تمليهم وحشيتهم، ولن يتحرروا من قبضتهم إلا إذا تحرروا من خرافة خاتم سليمان، وسطوة عصا سليمان.