38serv

+ -

 سأحاول من خلال بعض السطور المتواضعة استجلاء مفهوم الحرية كما تريده الشريعة؛ وذلك باستعراض بعض آراء العلماء في هذا الموضوع.

ماهية الحرية عند الإمام ابن عاشور
لقد أورد الإمام ابن عاشور للحرية معنيين؛ فقال: إن العرب أطلقتهما في كلامها، ثم نبه إلى أن أحدهما ناشئ عن الآخر.

المعنى الأول: ضد العبودية، “وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفا غير متوقف على رضا أحد آخر”. والملاحظ على هذا التعريف أنه يحرر أهلية الإنسان من سيطرة الغير عليها، وإخراجها من دائرة القصور إلى الكمال، وبالتالي تصبح تصرفات المكلف غير متوقفة على موافقة أي طرف آخر، وهذا يعني في الجملة إقصاء جميع مظاهر العبودية والاستعباد للأشخاص.

المعنى الثاني: “هو تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض”. وهذا التعريف في نظر ابن عاشور ناشئ عن الأول بطريق المجاز في الاستعمال، وهو يرمي إلى وجوب تحرير الإرادة التي تحرك فعل الشخص وتصرفه في شؤونه من كل ضغط يفضي في نهاية الأمر إلى انحراف الفعل والتصرف عن المقصد الذي يسعى إليه المتصرف.

ثم يلاحظ الإمام ابن عاشور بعد ذلك أن التعريفين السالفي الذكر جاءا مرادين للشريعة، وأنهما ناشئان عن الفطرة، كما أن المقصد الأصلي من مقاصد الشريعة لا يكتمل تحقيقه في هذا الجانب إلا في استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم، فقال في ذلك: “إن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة، وذلك هو المراد بالحرية”.

ماهية الحرية عند علال الفاسي
قال في تعريفها: “الحرية الإسلامية جعل قانوني يتفق مع إنسانية الإنسان وفطرته، وليست حقا طبيعيا يستمد من غريزة الرجل المتناقضة”، ونستخلص من هذا التعريف عدة ملاحظات هي:
الأولى، أن الحرية عند علال الفاسي مقيدة بوصف الإسلام؛ أي إن مفهومها صيغ داخل هذا الوصف. الثانية، أن الإنسان في نظره ما كان ليبلغ نيل حريته على الصيغة التي أرادها الإسلام لولا الوحي المنزل من السماء، والرشد الديني الذي حمله في طياته. الثالثة، إن الحرية ليست فعل الشخص ما يشاء وتركه ما يشاء، فإن ذلك يعد مسايرة لطبيعته الشهوانية، وليست فيها استجابة للقانون الإلهي، الذي يحكم تركيب الكون والوجود، ولكن الحرية الحقة: هي فعل الشخص ما يعتقد أنه استجابة لقانون التكليف الإلهي، الذي يحقق كل ما فيه الخير لنفسه وللصالح العام. الرابعة، أن أول خطوة يخطوها الإنسان في مجال الحرية هي عند إيمانه بأنه مكلف، وأنه مسؤول أمام الله على ما كلف به.

ماهية الحرية عند الخضر حسين
في بداية الأمر يحدد الخضر حسين وضعية هذا اللقب في خطابنا واستعمالنا له اليوم، فقال: “ينصرف هذا اللقب الشريف في مجاري خطابنا اليوم إلى معنى يقارب معنى استقلال الإرادة، ويشابه معنى العتق الذي هو فك الرقبة من الاسترقاق”. ثم بدأ بعد هذا في بيان مفهوم الحرية، فقال: “هو أن تعيش الأمة عيشة راضية تحت ظل ثابت من الأمن، وعلى قرار مكين من الاطمئنان، ومن لوازم ذلك أنه يعين لكل واحد من أفرادها حدًّا لا يتجاوزه، وتقرر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة”.

ونستخلص من هذا التعريف الملاحظات التالية: الأولى: الحرية وسط بين طرفين هما. الثانية: إن للحرية معنيين؛ مادي يتمثل في تحرير الرقاب، ومعنوي يتمثل في استقلال الإرادة في تصرفها من الوصاية والضغط. الثالثة، يكتمل معنى الحرية عندما يتحقق الصالح العام المتمثل في أمن الأمة واطمئنانها.

ماهية الحرية عند عبد المجيد النجار
يرى صاحب التعريف أن الحرية تعني في أقرب معانيها؛ أن يكون الإنسان متمكنا من الاختيار بين وجوه ممكنة من القناعات الذهنية والتعبيرات القولية، والتصرفات السلوكية، سواء على مستوى الفرد في خاصة نفسه، أو على مستوى انتمائه الجماعي. واستطرد موضحا لتعريفه فقال: (... إلا أن هذه الحرية في الاختيار يبقى معناها قائما ما لم تعد على أصلها بالنقض، كأن يكون الاختيار شاملا لما فيه إلحاق الضرر بالآخرين من الناس، وهو الحد الذي ينتهي إلى هدم الحياة الجماعية؛ بل قد يؤول إلى هدم الحياة الإنسانية، ولذلك فإنه لا يتصور معنى حقيقي للحرية إلا في نطاق بعض الضوابط التي تضبطها، فلا تنقلب إلى فوضى مدمرة تأتي عليها هي ذاتها بالإبطال).

مما سبق عرضه لآراء العلماء حول مفهوم الحرية في ميزان الشريعة نستخلص أن هذا المعنى لا ينضبط إلا بمقومات أربعة: الأولى، تحرير الذات من الاستعباد، سواء كان ذلك في حق الأفراد، الذين أوقعتهم في ذلك ظروف ملحة، أو حاجة ماسة، أو تحت قهر قوة غالبة، أو كان في حق الأمة بإذلالها من قبل سلطان جائر، أو عدو غاشم. الثانية، تحقيق استقلال الإرادة الفردية في ممارسة تصرفاتها، وتسيير شؤونها، دون التوقف على رضا طرف آخر، وكذا ممارسة الأمة لحقوقها وواجباتها دون انتظار موافقة جهة أجنبية عليها. الثالثة، التزام الأمة والأفراد في تصرفاتهم وأفعالهم بالانضباط بقانون التكليف الإلهي، وأي تجاوز لذلك القانون لا يعد من الحرية في شيء، وإنما هو انصياع لهوى واتباع لباطل شهوة. الرابعة، إفضاء جميع التصرفات التي يتعاطاها الأفراد في نهاية الأمر إلى تحقيق الصالح العام المشروع انطلاقا من تحقيق المصلحة الفردية المشروعة.

وبناء على هذا يمكنني أن أصوغ تعريفا للحرية فأقول: الحرية هي انسجام فطري يبين سلوك الإنسان والتكاليف الشرعية بذات حرة وإرادة مستقلة، غايتها تحقيق الصالح العام.