سنة لفظ السموم والأحقاد الفرنسية على الجزائر

38serv

+ -

عرفت العلاقات الجزائرية الفرنسية خلال العام 2024 منعرجا جديدا من التوتر، فقد شهدت سحب السفير الجزائري لدى باريس، وإلغاء زيارة الرئيس تبون التي كانت مقررة إلى فرنسا، قبل أن يعلن الطرف الفرنسي وقف عمل اللجنة المشتركة للذاكرة بين البلدين. ولم تسلم الجزائر ولا رموزها ومؤسساتها من أعنف الحملات الإعلامية تحت قيادة التيار اليميني المتصهين بدعم واضح من أنصار "الجزائر الفرنسية".

           

.. الانقلاب الماكروني وسحب السفير من باريس

 

في ذروة الصائفة الماضية والجزائر تعيش أجواء الانتخابات الرئاسية المسبقة، أقدمت الحكومة الفرنسية على إعلان تأييدها القطعي والصريح للواقع الاستعماري المفروض فرضا في إقليم الصحراء الغربية، وهي الخطوة التي اعتبرت تشويشا وضربا بجهود التقارب وتجاوز التوتر الذي طبع العلاقات في مناسبتين سابقتين (تصريحات ماكرون المنكرة لوجود الأمة الجزائرية وإساءته لقيادة الجيش الوطني الشعبي، وبعدها حادثة تهريب مصالح الاستخبارات الخارجية الفرنسية لأميرة بوراي المطلوبة من القضاء الجزائري).

ففي الثلاثين من جويلية 2024 أعلنت الجزائر عن سحب سفير الجزائر لدى فرنسا بأثر فوري، واعتبرت الخارجية في بيان لها التصرف الفرنسي  "خطوة الي لم تقدم عليها أي حكومة فرنسية سابقة".

الجانب الجزائري اعتبر أن الحكومة الفرنسية "تنتهك الشرعية الدولية وتتنكر لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وتناقض كل الجهود الحثيثة والدؤوبة التي تبذلها الأمم المتحدة بهدف استكمال مسار تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية.."، فضلا عن كونها تتنصل من المسؤوليات الخاصة التي تترتب عن عضويتها الدائمة بمجلس الأمن الأممي.

 

.. إلغاء زيارة تبون إلى فرنسا

 

وفي شهر أكتوبر، لم يفوت الرئيس عبد المجيد تبون فرصة لقائه الدوري الأول منذ انتخابه لعهدة رئاسية جديدة مع ممثلي الصحافة، ليعلن أن "زيارته إلى فرنسا مستبعدة في الوقت الراهن"، باستعماله العبارة التاريخية المعروفة "لن أذهب إلى كانوسا"، إضافة إلى حديثه عن بعض الأطراف الفرنسية "الحاقدة على الجزائر، والتي باتت تؤثر على قرارات الإليزيه".

واستخدم الرئيس تعبير "الذهاب إلى كانوسا" في الكناية عن رفض الخضوع وطلب المغفرة، ويشير إلى الإجراء الذي أُجبر عليه الإمبراطور الألماني هنري الرابع في القرن الـ11 عندما ذهب إلى مدينة كانوسا الإيطالية ليطلب من البابا غريغوري السابع رفع الحرمان الكنسي عنه.

 

.. توقف عمل لجنة الذاكرة

 

ومن أوجه الجفاء الذي بادر به الطرف الفرنسي، إعلان المؤرخ الفرنسي بنجامين سطورا، الرئيس المشترك للجنة الذاكرة الجزائرية - الفرنسية، توقف نشاطات هذه الهيئة التي تشكلت قبل عامين. وذكر سطورا، نهاية نوفمبر الماضي، أن اللجنة التي عقدت منذ تأسيسها 5 اجتماعات توقفت عن الاجتماع، متأثرة بالظرف الذي تعرفه العلاقات السياسية بين البلدين. وقال "عملنا توقف بعد تدخل العوامل السياسية والدبلوماسية".

وأفاد بأن مصالحة الذاكرة بين البلدين "تحتاج إلى الصبر وطول النفس وعمل بيداغوجي متدرج، في مواجهة التعقيدات والعراقيل التي تقف في وجه ذلك"، متهما "مجموعات الذاكرة" بوضع عراقيل أمام عمل هذه اللجنة، والتي سماها (القوى التي تعارض المصالحة)، كاشفا عن الصعوبات التي تواجه مصالحة الذاكرة.

وأثارت تصريحات المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا الأخيرة، بشأن توقف عمل اللجنة المشتركة الجزائرية الفرنسية للذاكرة، عدة تساؤلات حول دوافع وخلفيات خرجته، والصفة التي انطلق منها في إعلان تلاشي العمل الثنائي رفيع المستوى. ومع تطور الأزمة السياسية بين الجزائر وباريس وتنامي التصعيد السياسي والإعلامي المستهدف لتاريخ ومؤسسات الجزائر المستقلة، اتضح أن الإليزيه تعمد خلط الأوراق هروبا من التزاماته في تسوية ما تم الاتفاق عليه من قبل مؤرخي البلدين في ملف الذاكرة.

تصريح ستورا جاء بعد اللقاء الخامس والبيان المشترك للجنة الذي عقد في الجزائر العاصمة في جوان 2024، حيث اتفق الجانبان، في محضر رسمي، على تقديم قائمة تضم 36 شيئا منهوبا من طرف الجيش الاستعماري الفرنسي من الجزائر ما بين 1830 و1962 – طالبت الجزائر باسترجاعها بصفة رمزية بمناسبة الزيارة التي كان الرئيس تبون سيجريها الخريف الماضي إلى باريس، غير أن الطرف الفرنسي الرسمي تماطل في ضبط القائمة وتقديمها للطرف الجزائري رغم مرور خمسة أشهر كاملة على محضر اجتماع الجزائر.

ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن الرئيس الفرنسي يواجه صعوبات في إدارة هذا الملف الحساس، ويكون تحت تأثير الدوائر المحيطة به التي عرقلت تنفيذ اتفاق جوان الماضي، خاصة في شقه المرتبط بتسليم المنهوبات للجزائر، خاصة أن معالجة هذا الملف تزامنت مع الصراع السياسي المحتدم بين اليمين وبين المعارضين للسياسة الماكرونية تجاه قضايا الذاكرة مع الجزائر. ومن هنا يمكن القول إن ماكرون وقع في مأزق أثناه عن الوفاء بعهوده التي التزم بها أثناء زيارة الدولة التي قام بها إلى الجزائر في صائفة 2022، وإعلانه عن معالجة ملف الذاكرة "بكل تواضع وبلا محرمات"، مثلما ورد على لسان ماكرون، وهل تنصل الإليزيه عن "رغبته في إجلاء الحقيقة والذاكرة والتاريخ والاعتراف بالأمور".

 

.. خلط الأوراق

 

وما يستنتج من تصريحات ستورا بشأن "وأد" محتمل لعمل اللجنة، هو أن فرنسا الرسمية خطت خطوة إلى الوراء ما دام الرئيس الفرنسي لم يستطع تقديم الأشياء الملموسة في إطار تسوية الملف، وذلك حينما سارع إلى تأزيم العلاقات من خلال انحيازه للطرح المغربي الاحتلالي للصحراء الغربية، بعدما فشل في تسوية ملف الذاكرة مع الجزائر، حيث عمد إلى خلط الأوراق واللعب على القضايا الحساسة لتعكير العلاقات، خاصة مع تأكيد القيادة الجزائرية أنه لا يمكن حلحلة باقي القضايا مع مستعمر الأمس ما لم تتم تسوية هذا الملف.

 

تبون يهاجم الأوساط المتطرفة

 

وهاجم الرئيس عبد المجيد تبون، في رسالة له بمناسبة مرور 63 سنة على قمع الشرطة الفرنسية الوحشي لمظاهرة جزائريين في 17 أكتوبر، أوساطا متطرفة في فرنسا تحاول تزييف ملف الذاكرة أو إحالته إلى رفوف النسيان، في إشارة إلى رفض اليمين التقليدي واليمين المتطرف في فرنسا أي تنازل من جانب باريس في قضية الذاكرة.

 

.. المؤامرة واستدعاء السفير الفرنسي لدى الجزائر

 

وشهر ديسمبر الجاري تأزمت العلاقات أكثر، بعدما استدعت وزارة الخارجية الجزائرية سفير فرنسا ستيفان روماتيه، لإبلاغ باريس برفض السلطات القاطع لمحاولات متكررة لاستهداف أمنها وسيادتها.

وجاء استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر في أعقاب ثبوت المشاركة المباشرة لأجهزة الاستخبارات الفرنسية وضلوعها في مخططات تهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر، بحسب ما كشفه الإعلام الوطني.

وشددت الجزائر اللهجة تجاه باريس، بعدما كشفت "الأفعال الاستفزازية الفرنسية" والتي "لن تمر دون رد مناسب"، بحسب ما كشفته "الخبر" ووسائل إعلام جزائرية أخرى.

وأعقب هذا التطور كشف مصالح الأمن الجزائري تمكنها من "إحباط مؤامرة بقيادة وتخطيط المخابرات الفرنسية لزعزعة استقرار الجزائر"، عن طريق تجنيد شاب جزائري نشأ في المهجر لتحقيق غاياتها العدائية..

وبث التلفزيون الجزائري وقناة الجزائر الدولية على مرتين، وثائقيا يتناول اعترافات الشاب محمد أمين عيساوي، عن تفاصيل المؤامرة ومحاولة المخابرات الفرنسية تجنيده لصالحها.

فقد استغلت المخابرات الفرنسية، حسب تصريحات عيساوي، تجربته في الجماعات الجهادية، وقال إنه تلقى سنة 2022 اتصالا هاتفيا يدعي مساعدته لتدارك تصنيف ملفه لدى وزارة الدفاع الفرنسية ضمن الملفات السوداء، ما يسمح بعودته إلى أوروبا، من قبل جمعية "أرتميس" التي سبق لها أن قامت بعمليات تقرب من جزائريين أصحاب قضايا ذات طابع إرهابي مقيمين في فرنسا.

وأورد الوثائقي أن كل ما كان يحدث مع أمين كان محل مراقبة من الأمن الجزائري، حيث رصدت الصور الملتقطة للقاء الأول الذي جمعه بمصالح الاستخبارات الفرنسية تحت غطاء جمعية "أرتميس" في أفريل 2023 بالجزائر العاصمة، وكان الشخص الذي التقاه موظفا تابعا للمديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسية، ويشغل منصب سكرتير أول على مستوى السفارة الفرنسية بالجزائر.

وكشف سعداوي أن العميل الفرنسي اصطحبه مباشرة إلى المركز الثقافي الفرنسي، حيث جرت بينهما محادثة مطولة قبل أن يكشف له أنه عنصر من المخابرات الفرنسية.

وتواصلت مصالح الأمن الوطني مع الشاب وزودته بتعليمات لمواصلة العمل مع الجهات الفرنسية وإعلامها بكل الاتصالات والرسائل المتبادلة عبر تطبيق الواتساب.

وأكد المعني أنهم أرادوا إرساله إلى النيجر، كما طلبوا منه التقرب من المتطرفين في الجزائر العاصمة وكسب ثقتهم قصد إنشاء جماعة إرهابية يترأسها دون الكشف عمن يقف وراءها، متعهدين بتزويدهم بالأسلحة الضرورية في نشاطهم من خارج الجزائر، كما طلبوا منه تحديد أماكن وجود كاميرات المراقبة ودوريات الشرطة بالزي المدني وتفاصل أخرى أثارت حفيظة السلطات الجزائرية التي استدعت السفير وأبلغته باحتجاجها على هذه الاستفزازات.

 

.. حملة مسعورة على الجزائر

 

ويشن الإعلام الفرنسي مؤخرا هجوما شرسا على الجزائر على خلفية اعتقال الكاتب الفرنسي الجزائري، بوعلام صنصال، في الجزائر، بعدما أدلى بتصريحات تمس بالوحدة الترابية للجزائر وبتاريخها، ما اعتبرته الجزائر دليلا إضافيا على "وجود تيار حاقد على الجزائر، وهو لوبي لا يفوت فرصة التشكيك في السيادة الجزائرية".

ومنذ توقيف صنصال يوم 16 نوفمبر 2024، ضاعف اليمين المتطرف في فرنسا على مدى أسابيع، حملته القذرة ضد الجزائر عبر كل الوسائل والأصعدة، ولا يضيع التحالف الصهيو - يميني أية فرصة لنفث سمومه، آخرها مطالبته بفرض عقوبات على الجزائر من أجل إطلاق سراح صديقهم بوعلام صنصال.

 

أجندة تصفية الحسابات مع الجزائر

 

اتضح من خلال قوة الصراخ، أن الجزائر كانت مدرجة، قبل توقيف صنصال، في أجندة الاستهداف من هذا التيار المتصهين، ووفق مخطط مسبق. فقبل فترة قريبة، وأحرار العالم موجوعون بحرب الإبادة الصهيونية في غزة، سارع أصدقاء الكيان القاتل إلى استغلال مسألة الهجرة لأغراض سياسوية، من خلال مهاجمة المهاجرين المنحدرين من أصول جزائرية، وذلك بشكل خاص ومجحف يظهر بوضوح حالة السعار تجاه كل ما هو جزائري.

ومنذ منتصف شهر نوفمبر، كشر هذا التيار عن أنيابه مجددا ضد الجزائر كدولة وأمة، فمن خلال النقاشات أو الحملة المحمومة الدائرة في الأوساط السياسة والإعلامية الفرنسية منذ توقيف صنصال الفرنسي بمطار الجزائر، ظهرت خلفيات أخرى لا علاقة لها بحرية التعبير والرأي والقيم "الديمقراطية" التي تتخفى وراءها النخب الفرنسية، بل بدأت الأسباب الحقيقية تتجلى شيئا فشيئا.

ففي خضم النقاش حول حق "حرية التعبير"، انحرف وزير الداخلية الفرنسي، برونو روطايو، إلى مسألة جانبية لكنها جوهرية ومحركة لكل الأحقاد على الدولة الجزائرية، وهي اللغة والثقافة، متهما الجزائر بشكل صريح بـ"اتخاذ إجراءات عدوانية لمحو الفرنسية من المدرسة والشبيبة الجزائرية"، لافتا أن هذا النهج اتخذ في الجزائر قبل الاعتراف الفرنسي بـ"مغربية الصحراء الغربية"، في إشارة منه إلى منع وزارة التربية الوطنية، قبل نحو عام، تدريس البرامج الفرنسية في المدارس الخاصة ومنع استعمال كتب مدرسية غير تلك الموجودة في البرنامج الرسمي الوطني، وقبلها إصدار وزارات التكوين المهني، والشباب والرياضة، والعمل، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية واستخدام العربية حصرا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق".

 

.. الكراهية ودخول الأقدام السوداء على الخط

 

دخلت جمعية الأقدام السوداء، أصحاب الحنين للجزائر فرنسية، على الخط وأصدرت لائحة من عشرات التوقيعات، تطالب بإطلاق سراح صنصال، وهي جمعية تضم أبرز الوجوه الحاقدة على الجزائر.

وبهذا تتجلى أسباب الصراخ والعويل في باريس والمرتبط أساسا بإجهاض الجزائر مشروعا جهنميا (وليس مجرد توقيف شخص يخضع لقانون دولة مستقلة وذات سيادة).

 

تضخيم العملاء

 

فالمشروع الجهنمي، من خلال تضخيم صنصال وداود، كان يهدف إلى إحياء الرواية الاستعمارية التي تمجد الاستعمار، وهو محور تصريحات وكتابات صنصال الذي ادعى أن فرنسا بنت مستشفيات وطرقا ومدارس في الجزائر، وقدم لها على أنها راعية التحضر والإنسانية في الجزائر، وهو ما يتناقض مع أحداث الماضي الهمجي الدموي لفرنسا الاستعمارية ببلادنا.

وتجدر الإشارة أيضا أن ركيزة المخطط الجهنمي هي إحياء رواية المخزن بشأن عدم اعترافه بالحدود الموروثة عن الاستعمار، وبالتالي إسقاط تضحيات ملايين الشهداء الذين حرروا الأرض بدمائهم وطردوا المستعمر الفرنسي بالحديد والنار، خاصة أن صنصال طعن في ثورة التحرير وألحق بها أوصافا شنيعة.

إلى جانب ذلك، فإن المخطط يشمل أيضا مشروع الإبقاء على هيمنة اللغة الفرنسية ثقافيا في الجزائر عن طريق صنع جوائز مكافأة لها، وهو ما ذكره وزير الداخلية اليميني برونو روطايو في آخر تصريح له.

ولهذا، فإن الهجمة الموجهة ضد الجزائر تضاعفت من تيار متصهين أساسا، بعدما أجهضت الجزائر مشروعا كان يهدف من وراء صنصال لخلق تيار يقبل بالتطبيع مع دولة الكيان وإحياء التواجد اليهودي في الجزائر، وهو ما أخرج اللوبي اليهودي في باريس من جحره.

 

كلمات دلالية: