38serv
لا شك أن فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة في أمريكا كان من أبرز ما ميز هذا العام، قياسا بالجدل الواسع الذي أثير بشأن تأثيرات هذه العودة على توازنات النظام العالمي، في ظل مواقف ترامب التي تميل إلى "الانعزالية والحمائية"، ورفضه العلني لكثير من الاتفاقيات والمؤسسات متعددة الأطراف. لهذا فيبدو أن عودة ترامب تعكس مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والتحديات على مختلف المستويات الدولية، بدءاً من احتمال عقد صفقات مع قادة اليمين المتطرف الصاعد في أوروبا، وصولاً إلى إعادة تشكيل التوازنات الاقتصادية والسياسية العالمية.
ويرى مراقبون أن فترة حكم ترامب ستشهد "تعزيزا للانقسامات الجيوسياسية"، قياسا بشخصيته التي تتسم بـ"الصدامية" و"العدائية" والتي تنعكس على سياسته وطريقة إدارته للملفات الكبرى.
تحالف مع اليمين في أوروبا
إن عودة ترامب للبيت الأبيض تزامنت مع صعود غير مسبوق للتيار اليميني المتطرف في العديد من البلدان الغربية، ما يؤشر أن يحدث تقاربا بين البيت الأبيض في عهد ترامب مع الأنظمة اليمينية.
وما يعزز هذه التوقعات هو العلاقات القوية التي تربط ترامب مع قادة يمينيين أوربيين، على غرار فيكتور أوربان في المجر، جورجيا ميلوني (إيطاليا)، إلى جانب قادة يمينيين آخرين في فرنسا وبولندا وهولندا وبلجيكا والبرتغال والنمسا، وهي بلدان شهدت بزوغ نجم اليمين وفوز الأحزاب اليمينية بالانتخابات البرلمانية في تلك الدول.
لذا، أبدى محللون وخبراء أن عودة دونالد ترامب للحكم سيؤدي إلى تعميق الانقسامات في أوروبا وإضعاف التكتلات التقليدية مثل الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل تعزيز التوجهات اليمينية الشعبوية داخلها وبالتالي السير ضد التيار الليبرالي الذي لطالما رسم الخطط السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدى الغرب عموما.
فبروز اليمين المتطرف في البرلمانات المحلية في أوروبا، شكل تخوفا كبيرا لدى الأطياف السياسية الأخرى، على غرار اليسار والليبراليين، لا سيما بسبب السياسات "العنصرية" التي يتبناها اليمين، ما تسبب في انقسامات، خاصة داخل دول الاتحاد الأوروبي حول قضايا سياسية داخلية هامة كالهجرة والمساعدات الموجهة للبلدان "الحليفة" والبيئة والأجور، وهو الوضع الذي سيستغله ترامب لتقويض الاتحاد، من خلال دعمه للأحزاب اليمينية المتطرفة.
عزوف عن العمل مع التكتلات الدولية والإقليمية
بالمقابل، يميل ترامب إلى التفاوض مباشرة مع الدول، بدلاً من العمل ضمن أطر متعددة الأطراف، وهو ما يراه البعض إضعافا للجهود الجماعية في معالجة التحديات العالمية مثل التغير المناخي والأمن الغذائي، كما حدث في مجموعة العشرين سابقاً، إذ سبق لترامب خلال ولايته الأولى أن انتقد الدور الهزيل للمجموعة "التي لم تعد قادرة على تلبية مصالح واشنطن".
كما يتوقع البعض أن ترامب سيقوم بإعادة التفاوض أو الانسحاب من اتفاقيات التجارة الدولية، على غرار ما فعله خلال ولايته الأولى عندما انسحب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، وأعاد التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ما يشير إلى استعداده للتصرف بشكل أحادي، مجددا، إذا لم تتماش الاتفاقيات مع رؤيته.
وبالمقابل، يحذر خبراء أن هذه السياسة الانعزالية تجاه التكتلات الدولية التي يتبعها ترامب، ستؤدي إلى تراجع التأثير الأمريكي دوليا، وستفتح الطريق لصعود قوى بديلة مثل الصين والهند لملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة.
فتراجع دور واشنطن وزخمها داخل التكتلات الدولية، على غرار مجموعة العشرين، سيؤثر على نسبة التوافق بشأن القضايا الرئيسية، ما قد يُضعف فعالية هذه المنظمات في تحقيق أهدافها، وإضعاف التعاون الدولي في قضايا أساسية مثل مكافحة الفقر، مواجهة الأوبئة وحماية البيئة.
مع أو ضد روسيا؟
أما العلاقات مع روسيا، فيبدو المشهد معقدا، ويصعب توقع إن كان سيحدث تقارب أم تنافر بين موسكو وواشنطن ولو أن المعطيات تشير إلى حدوث "استقرار وتهدئة"، فترامب حرص، خلال حملته الانتخابية، على تقديم وعود بإيقاف الحروب التي نشبت في مختلف بقاع العالم، على غرار الحرب الروسية الأوكرانية. والأكثر من ذلك أن ترامب ألمح أنه سيوقف المساعدات العسكرية والمالية التي تقدمها واشنطن لكييف للصمود أمام روسيا، باعتبار أن الأولوية هي توجيه تلك المساعدات على شكل استثمارات لدعم الجبهة الداخلية في أمريكا، رغم أن ذلك يصب في مصلحة موسكو.
ويتساءل مراقبون إن كان الإرث الدبلوماسي الأمريكي الذي يتخذ من روسيا "عدوا" ومنافسا، سيتمكن من كبح التوجهات الجديدة التي ينوي ترامب السير فيها، والتي ستتسبب في إحداث تغييرات في العقيدة الدبلوماسية الأمريكية، خاصة على ضوء علاقة "الاحترام المتبادل" التي تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب إعلان نيته تخفيف الدور الأمريكي داخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي يراه مجرد عبء مادي على واشنطن، باعتبارها أكبر المساهمين فيه ماليا وعسكريا. فهذا التوجه يخدم مصالح روسيا التي ترى في الناتو مجرد وسيلة عسكرية للتوسع الغربي على حساب الشرق. وعليه، فإن أي تراجع في الدور الأمريكي داخل الناتو، سيخدم حتما مصالح الدب الروسي، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى وقف المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا التي تتم عبر الناتو، وهذا ما سيزيد من الضغوط على أوكرانيا ويدفعها للجلوس على طاولة الحوار والتفاوض على وقف الحرب مع روسيا.
سيواجه الصين بسلاح التعريفات الجمركية
وقياسا بسياسات ترامب الاقتصادية خلال ولايته السابقة، والتي استندت إلى شعار "أمريكا أولا"، مما دفعه إلى اعتماد سياسات "حمائية" تهدف إلى حماية المصالح الاقتصادية الأمريكية، على حساب المبادئ التقليدية للتجارة الحرة، فإن التوقعات تشير إلى أن ترامب سيفرض زيادة في التعريفات الجمركية على بعض الدول، على غرار ما فعله خلال ولايته الأولى عندما فرض تعريفات على واردات من الصين والاتحاد الأوروبي، وشمل ذلك الصناعات الثقيلة، الإلكترونيات، والزراعة. لهذا، يتوقع مراقبون أن تشهد سنوات ترامب المزيد من الرسوم، قد تصل حتى التأثير على أسعار بعض المواد الإستراتيجية، ما سيؤدي إلى "توترات" في التجارة العالمية.
لذا، فإن المراقبين يتوقعون أن تتركز سياسة ترامب تجاه الصين على فرض تعريفات جمركية مرتفعة وفرض قيود تكنولوجية، مع دعم تايوان والدفع أكثر نحو انفصالها عن الصين، ما سيرفع حدة السباق نحو التسلح في منطقة آسيا والمحيط الهادي وتصعيد التوترات العسكرية.
كما ينتظر أن يقلل ترامب من الاعتماد على الواردات والسعي إلى تعزيز الصناعات المحلية وتشجيع أصحاب المال على الاستثمار وإبقاء رؤوس أموالهم داخل البلاد، مع تقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين، ما قد يتسبب في إحداث خلل في سلاسل الإمدادات العالمية بفعل "غلق" السوق الأمريكية الضخمة، ما قد يتسبب في انخفاض التبادل التجاري وبالتالي تباطؤ في النمو العالمي وعدم استقرار الأسواق المالية.
فيما يحذر خبراء أن هذه السياسة الانعزالية التي يتبعها ترامب ستؤدي إلى تراجع التأثير الأمريكي دوليا، وستفتح الطريق لصعود قوى بديلة مثل الصين والهند لملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة، وهو ما يسهم في بروز عالم متعدد الأقطاب!