38serv
في الموطأ من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: “الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف”.
الشاهد من الحديث قول المعصوم: “واجتنب الفساد”، وأفسد في الأرض”، فمن البلايا التي استشرت وانتشرت في المجتمع الفساد الذي نهش جسد الأمة، وسرى في كيانها عياذا بالله كالسرطان، وموضوع الفساد عالجه الوحي فيما يربو عن خمسين آية حذرت من الفساد بجميع صوره وأشكاله، ففي مطلع سورة البقرة كشف لزيف أهل الفساد الذين يزعمون الإصلاح: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
وأعظم صور الفساد المعاصي، فإن خطرها جسيم وشؤمها عظيم، ورد في التنزيل: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس}، وسفك الدم الحرام من أبشع صور الفساد: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”، ولذا قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}.
ومن صور الفساد عقوق الوالدين وقطيعة الرحم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}، وعَضْلُ المرأة بمنعها من الزوج الكفء فساد: “إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”، إنما هنا لا بد من وقفة هامة؛ فالزوج الخلوق لا بد من توفر خاصية أخرى فيه، وهي القدرة على الحياة الزوجية، والتي عبر عنها المعصوم بـ: “الباءة”، فنكون بذلك جمعنا بين النصين: حديث الزوج الخلوق وحديث الزوج المقتدر.
والسحر والشعوذة فساد: {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين}، وذلك لما يترتب على هذا الفعل الخسيس من تفريق بين الأزواج وخراب للبيوت، ومن الصور العبث بالميزان والتطفيف بالمكيال: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا}، ومن الفساد الغش في البيع والمعاملات؛ فقد مر عليه الصلاة والسلام على صُبْرَة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، قال: “ما هذا يا صاحب الطعام؟”، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: “أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش، فليس مني”.
ومن الفساد الاعتداء على الممتلكات العامة بالاختلاس، واستغلال الوظيفة للمصلحة الشخصية، فقد زين الشيطان للبعض سوء أعمالهم، فاستحلوا الأموال كما استحلوا الدماء، فتلك من صفات المفسدين يعتدون على المال العام إما بالسرقة أو النهب، أو التزوير أو المحاباة، وكلها من صور الفساد التي تضر العباد والبلاد: {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون، قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم، قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين}، ولذلك وبَّخ النبي صلّى الله عليه وسلم من يستغل عمله في استجلاب منافعه الخاصة، فقال: “ما بال العامل نبعثه فيأتي، يقول: هذا لكم وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا”. ومن مظاهر الفساد الغش في التعليم، وتزوير الشهادات، وانتحال الألقاب العلمية، فيوسد الأمر إلى غير أهله.
إن جريمة الفساد من أخطر الجرائم التي تعود مآسيها على الفرد والمجتمع لما ينتج عنها من تعطل في المصالح وإهمال في المرافق وإسقاط للحقوق، والواجب محاربة الفساد، والإبلاغ عنه بالطرق المتاحة، وتربية النشء على النزاهة وأداء الأمانة ومجانبة الغش والخيانة، وبذل النصح والتواصي بالحق، وإلا أخذ العامة بذنب الخاصة؛ ففي الصحيح من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم استيقظ من نومه وهو يقول: “لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه وبالتي تليها”، قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخبث”. والله ولي التوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي