لقد كان للإمام الشاطبي موقف وسط بين الطرفين، فهو لم يعد حفظ العرض كلية مستقلة مثل الفريق الأول، وهذا واضح في حصره للكليات، حيث قال: “ومجموع الضروريات خمسة: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل”، وفي الوقت نفسه، يرى أن حفظ العرض إن ألحق بالضروري فدليله موجود في الكتاب والسنة، والمتمثل في حد القذف واللعان، حيث قال: “وإن ألحق بالضرورات حفظ العرض قلت في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف”.
وهنا، نقف متسائلين: ما الذي يقصده الإمام الشاطبي بإلحاق حفظ العرض بالضرورات، وعدم عدّه كلية سادسة ضمن الكليات الضرورية؟ نجده يجيب على ذلك فيقول: “وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي في أذيات النفس”، والذي يفهم من كلامه هذا أن العرض جزئي يندرج حفظه في رتبة الضروريات، ولكنه لا ينتهض أن يكون كليا كما ظن البعض، وإنما يتم ذلك بدخوله تحت إحدى الكليات الست القريبة منه، ويرى الإمام الشاطبي أن ذلك يتمثل في كلي النفس.
بينما يرى الشنقيطي أنه يلحق بكلي النسب، حيث قال: “من فوائد حفظ الأعراض صيانة للأنساب عن تطرق الشك إليها بالقذف فيلحق النسب”، والذي أرجحه في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الشاطبي من عد حفظ العرض مندرج ضمن الضروري، لكن تحت كلي النسب لا كلي النفس كما قال، لأن العرض وإن كان جزئيا من جزئيات النفس، فإن صلته بالنسب أقوى وأوثق، فهو يعدّ بمنزلة الحمى له، والكيان الذي يقيه من أسباب الانخرام، وذلك بسبب الملازمة الموجودة بينهما. أما عدّه من الضروري، فذلك يعود لتعدّد الأدلة القائمة عليه، ما يكسبه بتضافرها قوة الضروري من حيث الحفظ له.
وإلى جانب الأدلة التي ساقها القائلون بأن العرض من الكليات الضرورية، نسوق عددا آخر للبرهان على ما سبق ادّعاؤه:
أ- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} الحجرات:12، وعلق الخضر حسين على هذه الآية بقوله: “وفي هذا التنبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عرض المرء أشرف من بدنه، فإذا قبح من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض أعراضهم بالطريق الأولى”.
ب- قوله صلّى الله عليه وسلم: “المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”، وفي هذا الحديث ذكر صلّى الله عليه وسلم العرض إلى جانب الدم ويمثل النفس، وهذا فيه إشارة إلى علو مكانته، وقوة اعتباره في الشريعة.
ج- إن صيانة الأعراض سجية في سلوك البشر، وهي قديمة قدم النسل البشري، بل كانت درجة اعتبارها أقوى مما هي عليه الآن، فكم بذلت في سبيل الأعراض من أموال وأنفس. فمجموع هذه الأدلة يكسب العرض من الاعتبار والثبات ما يمكنه من الاندراج في مرتبة الضروري بصفة الجزئي المرتبط بالنسب، لا بصفة الكلي المستقل.. والله أعلم. *
رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر