سجن صيدنايا السوري.. "المسلخ البشري" (فيديوهات)

38serv

+ -

تزامن الإعلان عن سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع، بشار الأسد، صبيحة أمس الأحد، مع فتح بوابة أكثر سجون سوريا غموضا ووحشية، ومع كسر الصمت المطبق عليه ودخول أولى إشعاعات النور التي حملت معها أملا جديدا في الحرية، حتى خرجت معها أسرار فظيعة فاضت بها صدور المعتقلين.

 

يقع سجن صيدنايا العسكري بالقرب من بلدة صيدنايا الجبلية، على بعد 30 كم شمالي العاصمة السورية دمشق، ويتكون من بناءين، أولهما البناء الرئيسي القديم (البناء الأحمر)، والبناء الجديد المعروف باسم (البناء الأبيض)، وتقدر مساحته إجمالا بـ1,4 كيلومتر مربع.

 

"مسلخ بشري"

ويختلف هذا السجن عن باقي سجون سوريا من حيث التبعية ومن حيث الممارسات والقوانين المطبقة فيه، إذ يخضع لوزارة الدفاع، بينما لا تتمتع وزارة العدل بأي سلطة عليه، فيما لا يستطيع أحد دخوله أو زيارة أي معتقل، من دون إذن الشرطة العسكرية، بعد الحصول على موافقة مسبقة من شعبة الاستخبارات العسكرية.

وجاء تأسيس السجن في 1987، مع فترة حساسة من تاريخ سوريا التي عاشت أحداثا كبيرة وحالة من اللااستقرار سياسيا وأمنيا، فخصص صيدنايا في بادئ الأمر لاحتجاز العسكريين المخالفين للنظام، لكنه سرعان ما تحول إلى مركز تعذيب المعتقلين السياسيين والمدنيين، لتصنفه منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في 2012، في صدارة قائمة تضم حوالي 27 سجنا من هذا النوع في سوريا، تتركز معظمها في العاصمة دمشق.

واللافت في تاريخ هذا السجن، أنه تعاقب على إدارته 10 مديرين، ينحدر جميعهم من قرى وبلدات تابعة لمحافظتي طرطوس واللاذقية في غرب البلاد.

قبل سنوات من الآن، أطلقت منظمة العفو الدولية على سجن صيدنايا تسمية "المسلخ البشري"، والسجن الذي "تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء"، معتبرة إياه أحد أكثر السجون سرية في العالم، لطالما بث اسمه الرعب في قلوب السوريين، فيما جاءت تسميته بـ"السجن الأحمر" بعد مجزرة 2008، التي راح ضحيتها عدد كبير من المعتقلين الإسلاميين.

 

تهمة "الخيانة".. واستباحة الكرامة الإنسانية

ينظر النظام السوري إلى المعتقلين في سجن صيدنايا على أنهم مجرّد "خونة" و"عملاء"، وهي التهمة التي تبيح تجريد هؤلاء من كرامتهم الإنسانية وتعريضهم لأبشع صور التعذيب النفسي والجسدي والاعتداءات الجنسية والإعدامات الفردية والجماعية.

ومنذ سنة 2011، التي تزامنت وبداية ثورة الربيع العربي المناهضة للنظام الذي صنعته "عائلة الأسد"، المنحدرة من قرداحة باللاذقية، عرف السجن مرحلة أخرى من التعذيب وممارسة القتل الوحشي في حق المعتقلين، ففكرة أن تموت تحت قصف الطائرات الحربية التي أبادت أحياء وبلدات سورية بأكملها، من أجل ترويع الشعب وترويضه، تصبح هينة أمام حجم العذاب والاغتصاب ومرارة الموت وبشاعة التنكيل من وراء أسوار هذا المعتقل.

إن العجيب في أمر صيدنايا، ونحن ندوّن هذه السطور، أنه لا تزال خمس فرق من الدفاع المدني السوري متخصصة في الإنقاذ، تبحث بعد 24 ساعة من فتح أبوابه من قبل قوات المعارضة، عن معتقلين أحياء، مستخدمة أحدث وسائل البحث وبكلاب مدربة، ومستعينة بمرشدين وسجناء ومعتقلين سابقين على دراية بخفايا السجن وحجراته السرية.

ونحن نجمع عددا من الشهادات الحية لمساجين تم تحريرهم منذ اقتحام السجن، صبيحة أمس الأحد، وقفنا على عدة مشاهد وصور وقصص يعجز العقل عن تصديقها، ارتأينا أن نسرد بعضا منها.

 

نجاة من المشنقة في الساعة صفر

"الآن نحن في وسط دمشق، أقسم بالله الذي لا إله إلا هو، إعدامنا كان قبل بنصف ساعة أنا وهذا الرجل، نحن 54 شخصا إعدامنا كان اليوم.. لا إله إلا الله"، يقول أحد الناجين من السجن، ظل يقسم على شهادته وهو مرفق بثلاثة من شركائه في السجن في مقطع فيديو من 23 ثانية، ليختم رفيقه قائلا: "كنا لنموت قبل نصف ساعة وترسل جثثنا للدفن مثل الخنازير".

 

"إيش اللي صار ؟"

من بين المقاطع التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي تظهر عددا من المساجين وهم يتحركون بين جدران غرفهم، غير مدركين تماما بالحدث الجلل الذي يقع بالخارج، وحتى من الذين تم تحريرهم، من يجري في الشارع حافي القدمين بملابس بالية وهو يسأل "إيش اللي صار؟"، وبمجرد أن جاءته الإجابة من أحد المارين، أن النظام سقط، حتى صرخ غير مصدق وأكمل طريقه مهرولا وهو لا يكاد يقدر على ذلك من عجز ظاهر.

 

 "باستيل" سوريا يسقط

في سلسلة فيديوهات ومنشورات على موقع "X"، وثّق الصحفي والناشط الحقوقي السوري، قتيبة ياسين، بالفيديوهات اللحظات الأولى لخروج المعتقلين من السجن.. وقال قتيبة: "سقط باستيل سوريا.. لحظات تاريخية، خروج المعتقلين من سجن صيدنايا، التكبيرات سمعت على بعد كيلومتر".

وبتعليقه وهو ينشر فيديو آخر يوضح شكل حجرات ضيقة جدا وأخرى أوسع تضم محتجزين كثر، غرّد قتيبة: "هنا في كل غرفة من هذه كانوا يضعون 10 معتقلين وأكثر، قد لا تصدقون، لكن سنثبت لكم قريبا، أن عشرات الآلاف من أبنائنا استشهدوا هنا في هذه المسالخ".

 

"أخرجوا النسوان أولا"

أثار مشهد متداول لأحد السجناء وهو يصرخ قبل فتح زنزانته بالمبادرة أولا بإخراج السجينات أولا، وكأنه يقول للرأي العام إن السيدات من المعتقلات السياسيات والحقوقيات والمناضلات، أكثر من ذاق ويلات السجن ووحشية سجانيه.

وفي مقطع آخر أبكى الكثيرين، تظهر سيدات وهن يخشين الخروج من زنزانتهن خوفا من العقاب أو أن تكون أضحوكة جديدة لتعذيبهن وقتلهن، فيما يقسم أحد رجال القوات المسلحة المعارضة على أنه يوم تحرير، وأنه من الثوار جاء لينقذ المساجين قائلا: "لا تخافوا نحن من الثوار.. اخرجوا واذهبوا حيث تشاؤون".

لعلّ أكثر ما حزّ في النفوس في ذلك المقطع، ظهور طفل صغير قد يبلغ من العمر 3 سنوات تقريبا مصدوم من الهرج الذي أمامه، وهو يحاول إيجاد والدته، التي يبدو أنها أنجبته داخل السجن، فيما لم ير النور قطّ ولا يدرك عن العالم الخارجي شيئا بعد، فيما تبين لاحقا أنه ليس الطفل الوحيد الذي يعيش داخل السجن.

 

"لا أعرف آباء أطفالي"

صدمت إحدى سجينات صيدنايا اللائي خرجن، أمس، العالم، بشهادتها وهي تقول إنها اعتقلت وهي شابة عزباء في سن الـ19، لتخرج اليوم في سن الـ32 ومعها أطفال، لا تعلم شيئا عن هوية آبائهم، وهذا نتيجة تعرضها لعمليات اغتصاب متكررة انتهكت كرامتها لسنوات عديدة.

 

"هكذا يصنع الموت"

حسب شهادة أحد الناجين من السجن، فإن الإعدام هو آخر محطات التعذيب في سجن صيدنايا، إذ ما إن تفتح إحدى الزنزانات أبوابها، حتى يتم النداء على اسم، فيسحب سيء الحظ ذلك اليوم لتهيئته لساعة الموت، فكان الأمر يتم عادة يوم الإثنين، فيحرم المساق إلى قدره من الأكل والشرب لثلاثة أيام، إلى غاية يوم الأربعاء، حيث يتم تنفيذ حكم الإعدام في حقه "فيجرونه إلى حبل المشنقة، ويعدمونه ويستقدمون التالي لقد كان شيئا رهيبا لا يصدق".

إن السجن يحتوي حسب الشهادات المقدمة، على قسم أبيض للجرائم العادية، وقسم أحمر في الطوابق السفلية تحت الأرض تخصص للتصفيات والتعذيب الوحشي، ولأبوابها رموز وشيفرات يعلم بها فقط ضباط السجن الفارون، هي اليوم لا تزال تنتظر ساعة الفرج إن كان لا يزال بها أحياء.

 

"غرف الملح"

 في تحقيق من 60 صفحة، صدر سنة 2022، عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، تم الكشف لأول مرة عن مصير جثث المعتقلين الذين تم تنفيذ حكم الإعدام في حقهم، وكذلك كشف الستار عن الهرمية العسكرية والإدارية وتدرج المسؤوليات والقيادة داخله، وذلك بناء على 31 مقابلة مع عمال سابقين، وضباط منشقين عن النظام، وكذا معتقلين سابقين.

فبعد عمليات الإعدام التي تتم داخل السجن على مدى يومين في الأسبوع، تنقل الجثث بواسطة إدارة الخدمات الطبية لتحرير شهادات الوفاة في مشفى تشرين العسكري، ومن ثم دفنها في مقابر جماعية في كل من نجها وقطنا والقطيفة بريف دمشق، والتابعة لإحدى الفرق العسكرية المسؤولة عن حماية السجن.

أما الطريقة الأكثر بشاعة في مهمة القتل، فترتبط بالجثث الناتجة عن سقوط الضحايا تحت التعذيب أو بسبب انعدام الرعاية الطبية، فهنا ولمدة لا تتجاوز 48 ساعة تدفن الجثة في غرفة أنشئت بعد 2011 تسمى بـ"غرف الملح". في هذه الغرف توضع الجثث ويكون على جبهة كل واحدة رقم وتحنط بالملح، ومن ثم تنقل إلى مشفى تشرين العسكري، الذي يقوم بمعاينتها وإصدار شهادة وفاة لها، إلى أن تنقل إلى فرع السجون في "الشرطة العسكرية"، ومن ثم ترسل للدفن في إحدى المقابر الجماعية، في ساعات الصباح الأولى.

وتقدّر الرابطة، أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ 2011، وقد أفرج عن 6 آلاف منهم فقط، فيما اعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصا أنه نادرا ما يبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.

كلمات دلالية: