تم، بحر الأسبوع الماضي، افتتاح السنة القضائية الجديدة (2024-2025) ببلادنا، وبهذه المناسبة، نريد التذكير بأهمية هذا القطاع في المجتمع المسلم.
فلما كان الاجتماع البشري ضرورة حيوية في نهوض حياة إنسانية معتدلة، مع ما يقتضيه هذا الاجتماع من تبادل المنافع والمصالح والتعاون والتناصر على جلب المصالح ودرء المفاسد، وما يعرض له من مظاهر الانحلال والانخرام والفساد، كانت إقامة نظام القضاء ضرورة ملحة ومقصدا شرعيا، يحدّ من جماح الشهوات، ويسدّ ثلمات الهرج والفتن والاعتداء، ويقيم مصالح الأمة على أساس العدل والحق.
ومن المعلوم، بداهة، أن الناس يحتاجون في حياتهم إلى القضاء، فلم يخل مجتمع من المجتمعات من جهة تقضي بين الناس وتفصل بينهم في منازعاتهم وتنصف المظلوم وتردع الظالم، ولهذا السبب، لم تغفل الشريعة عنه وإنما شرّعت الأحكام لإيجاد مؤسساته، وبيّنت الشروط فيمن يتولى مهامه، وأرست أصوله، وشرع العلماء في تنزيل تلك الأصول وتحويلها إلى إطار مؤسسي له بنية داخلية محدّدة، وإجراءات تضبط عمله.
القضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيّبة، ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران ويتفرّغ الناس لما يصلح دينهم ودنياهم، فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس، استراح قضاتهم ولم يحتج إليهم.
ويتألف نظام القضاء الإسلامي من ثلاثة أركان هي: أولا: القاضي، ويمثل الركن الأول من أركان المنظومة القضائية، فهو الذي يحسم الخلافات ويفضّ المنازعات، ثانيا: الدعوى، وهي ما يدعى به إنسان على آخر من حق ويريد من القاضي أن يقضي له به، ثالثا: الحكم، وهو يصدر عن القاضي بعد سماع حجج وبيّنات ودفوع أطراف الدعوى، وفيه يحكم على المدّعى عليه، سواء بالإدانة أو الإبراء.
والقضاء عامة من أهم وظائف الدولة، وهو في الإسلام من أهم الولايات التي تنهض عليها الأمة في سياسة الدنيا وحراسة الدين، وقد تضافرت الأدلة من النصوص ومن شواهد الحال على اعتباره وعلى وجوب إقامته، إذ به دفع الظلم ونصرة المظلوم ومنع الظالم من الاعتداء على الأمن والحرمات، وبه تحقق الأهداف العليا لصيانة المجتمع، فأي تقصير في حفظ الأمن لا شك آيل إلى زعزعة أمن الناس واستقرارهم، واختلال نظام الأمة ووهنها واختلاف كلمتها، لتفشي أسباب النزاعات والخصومات بينها، قال الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}.
ومن أهم خصائص النظام القضائي المميّزة في الإسلام:
أولا: العدالة والمساواة، إذ لا يميّز القضاء الإسلامي بين الناس حسب المكانة الاجتماعية أو الجنس أو العرق أو الشرف وغيرها من أنواع التمييز، فالجميع في ساحة القضاء سواء مهما تباينت منازلهم أو ألوانهم أو أجناسهم. كما فهم ولاة الأمور في الدولة الإسلامية أن أساس الحكم في الإسلام هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فهذا عمرو بن العاص يقول: “لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل”.
ثانيا: استقلال القضاء عن باقي السلطات في الدولة، وذلك بمنع تدخل غير القاضي وتأثيره على القاضي، وهو يتضمّن الاستقلال الوظيفي ويعني قيام القاضي بواجبه القضائي دون تدخل من أي جهة أو تأثير، والاستقلال العضوي الذي يعني إفراد القضاء بسلطة منفصلة عن باقي السلطات التنفيذية والتشريعية.
وبهذه الخصوصية التي تميّز بها جهاز القضاء في الإسلام، أصبح القضاة محلا للاعتبار والاحترام، وكأنهم مجموعة من الناس الأقرب إلى المثالية، يتحمّلون أمانة إقامة العدل بين الناس، قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
ومن أجل ضمان حيادهم، حرصت الشريعة على تركيز مبدأ حصانة القضاة، فلم تسمح لأي كان بالتدخل في شؤون القضاة أو أعمال القضاء. كما حرصت على توفير ما يكفيهم في حياتهم ومعاشهم، حتى لا تمتد عيونهم ولا أيديهم إلى حقوق الغير.