+ -

  كلمة الخيانة أو الغدر كلمة مُرّة مريرة، يكاد اللسان يعجز عن التلفظ بها: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}، والخيانة من سمات المنافقين: “أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن، كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر”، بل إن أشدّ الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون: “لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان”.

بسلاح الغدر الخيانة، تم إسقاط الخلافة التي كانت رمزا يجمع شتات الأمة جمعاء، لتتمزق الأوطان بعد ذلك إلى بلدان ودويلات مقهورة محقورة مغلوبة على أمرها، تعيش على هامش التاريخ، ثم أقام أعداء الأمة التائهة في كل موطن من يأتمر بأوامرهم، وينفذ مخططاتهم، وينفذ سياستهم طوعا أو كرها، ليعمدوا بعدها إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغة الإلحاد، فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة الحتمية أن نشأ جيل ممسوخ، يعادي دينه، ويتنكّر لتاريخه.

بسلاح الغدر، تجرّعت الأمة المرارات، وفقدت الكثير من قادتها، فالمصطفى صلّى الله عليه وسلم سَمَّته يهود، وحاول يهود بني النظير اغتياله، لولا العناية والحفظ الرباني: {والله يعصمك من الناسِ”، والفاروق عمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وعثمان قتلته الفئة الباغية باسم الدين، وفي بئر معونة غُدر بسبعين من قراء الصحابة...

إن الخيانة متى ظهرت في قوم، فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدا، ويحذر كل أحد الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، ورد في الأثر: “لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه”. والخيانة أنواع :خيانة العقيدة، كمن يستحِل ما حرّم الله، أو ينكر أمرا أمر الله به: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين}، فالخيانة هنا هي خيانة دين، خيانة عقيدة.

ومن أنواع الخيانة خيانة الأعراض، ربنا سبحانه حرّم الزنا، بل نهانا عن مخالطة أسبابه: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا}، وقوله صلّى الله عليه وسلم: “ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة يضعها رجل في رحم لا يحلّ له”، ومن الخيانة خيانة الأخوة: {محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم}. ولكن، للأسف، ترى البعض يحزن إذا فقد شيئا من حطام الدنيا، ولا يحزنه ولا يتأثر لحال إخوانه أبدا، على نحو ما يحدث في سوريا والعراق والصومال من مصائب: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.

من الغدر والخيانة خيانة الكسب، الإسلام حريص كل الحرص على أن يكون مطعم المسلم ومشربه حلالا، فلا غدر ولا خداع ولا غش: “مرّ رسول الله عليه الصلاة والسلام على صبرة طعام (كومة)، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا فليس منا”.

ومن أخطر أنواع الخيانة خيانة الأوطان، كان العرب في جاهليتهم يرون خيانة الوطن جرما يستحق صاحبه الرجم، ورد في السير أن أبرهة الحبشي بنى كنيسة، في محاولة منه ليحجّ إليها الناس، فعمد إليها أحدهم وأحدث فيها، فعزم أبرهة على هدم الكعبة، وجهّز لذلك جيشا يقوده فيل، حتى وصل الطائف، فخرج إليه مسعود بن متعب فقال له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، وسنبعث معك من يدلك، فبعثوا معه أبا رغال يَدُلُّه على الطريق إلى مكة، وفي الطريق مات أبو رغال فرجمت العرب قبره، تُرَى كم من حفيد لهذا الرُّغَال في زماننا يستحق الرجم، فإلى الله المشتكى، وهو ولي التوفيق.

إمام مسجد عمر بن الخطاب
- بن غازي - براقي