+ -

أثارت تصريحات المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، مؤخرا، بشأن توقف عمل اللجنة المشتركة الجزائرية الفرنسية للذاكرة، عدة تساؤلات حول دوافع وخلفيات خرجته والصفة التي انطلق منها في إعلان تلاشي العمل الثنائي رفيع المستوى. ومع تطور الأزمة السياسية بين الجزائر وباريس وتنامي التصعيد السياسي والإعلامي المستهدف لتاريخ ومؤسسات الجزائر المستقلة، اتضح أن الإليزيه تعمد خلط الأوراق هروبا من التزاماته في تسوية ما تم الاتفاق عليه من قبل مؤرخي البلدين في ملف الذاكرة.

ذكر ستورا في حصة نقاش بالقناة الخامسة للتلفزيون الفرنسي العمومي حول واقع العلاقات الجزائرية الفرنسية أن اللجنة التي عقدت منذ تأسيسها 5 اجتماعات توقفت عن الاجتماع متأثرة بالظرف الذي تعرفه العلاقات السياسية بين البلدين، وقال: "لقد توقف عمل اللجنة بعد تدخل العوامل السياسية والدبلوماسية".

وانطلاقا من هذا التصريح فإن ما يثير الانتباه أن المؤرخ الفرنسي الذي اعتاد على الإدلاء بتصريحات منتظمة حول مسار التفاوض بشأن ملفات الذاكرة وتقديمه على مدار عامين كافة التطمينات حول نقاط التفاهم والتقدم في هذا الملف.. ظهر فجأة ليعلن توقف عمل الهيئة التي تشتغل بإشراف مباشر من رئيسي البلدين! وهو ما دفع متابعين إلى التساؤل عن القبعة التي ارتداها لإطلاق تصريح كهذا، إن كان من موقعه كمسؤول اللجنة المشتركة من الجانب الفرنسي أم تكلم كباحث مستقل؟

فإذا كان ستورا يتحدث متجردا من الانتساب إلى اللجنة فإن ما جاء على لسانه يحمل أفكارا تختلف عن الطرح المشترك أثناء النقاشات التي عقدتها اللجنة المشتركة في دوراتها الخمس التي انعقدت بباريس والجزائر، خاصة ما تعلق بحق الجزائريين في استرجاع منهوباتهم واعتراف فرنسا بجرائمها الكبرى في حق الأسلاف.

وإذا كان يتكلم باسم اللجنة الفرنسية فالأجدر، كما تقتضيه قواعد العمل الحكومي الرفيع، عقد لقاء مشترك يتوج ببيان مشترك يعقب نقاشا مشتركا بين مؤرخي البلدين، كما جرى عليه العمل لإعطاء التفاصيل الكاملة بعيدا عن طرح وتصور طرف واحد.

تجدر الإشارة أيضا إلى أنه في اللقاء الخامس والبيان المشترك للجنة الذي أتى بعد الاجتماع الذي عقد في الجزائر العاصمة في جوان الماضي اتفق الجانبان في محضر رسمي على تقديم قائمة تضم 36 شيئا منهوبا من طرف الجيش الاستعماري الفرنسي من الجزائر ما بين 1830 و1962، طالبت الجزائر باسترجاعها بصفة رمزية بمناسبة الزيارة التي كان الرئيس تبون سيجريها الخريف الماضي إلى باريس، غير أن الطرف الفرنسي الرسمي تماطل في ضبط القائمة وتقديمها للطرف الجزائري رغم مرور خمسة أشهر كاملة على محضر اجتماع الجزائر.

ويمكن الاستنتاج أن الرئيس الفرنسي يواجه صعوبات في إدارة هذا الملف الحساس ويكون تحت تأثير الدوائر المحيطة به التي عرقلت تنفيذ اتفاق جوان الماضي، خاصة في شقه المرتبط بتسليم المنهوبات إلى الجزائر، خاصة أن معالجة هذا الملف تزامنت مع الصراع السياسي المحتدم بين اليمين وبين المعارضين للسياسة الماكرونية تجاه قضايا الذاكرة مع الجزائر، ومن هنا يمكن القول إن ماكرون وقع في مأزق أثناه عن الوفاء بعهوده التي التزم بها أثناء زيارة الدولة التي قام بها إلى الجزائر في صائفة 2022 وإعلانه عن معالجة ملف الذاكرة "بكل تواضع وبلا محرمات"، مثلما ورد على لسانه. فهل تنصل الإليزيه من "رغبته في إجلاء الحقيقة والذاكرة والتاريخ والاعتراف بالأمور"؟

ما يستنتج من تصريحات ستورا أيضا بشأن "وأد" محتمل لعمل اللجنة هو أن فرنسا الرسمية خطت خطوة إلى الوراء مادام الرئيس الفرنسي لم يستطع تقديم الأشياء الملموسة في إطار تسوية الملف، وذلك حينما سارع إلى تأزيم العلاقات من خلال انحيازه إلى الطرح المخزني الاحتلالي للصحراء الغربية بعدما فشل في تسوية ملف الذاكرة مع الجزائر، حيث تعمد خلط الأوراق واللعب على القضايا الحساسة لتعكير العلاقات، خاصة مع تأكيد القيادة الجزائرية أنه لا يمكن حلحلة باقي القضايا مع مستعمر الأمس ما لم تتم تسوية هذا الملف.

وما ينبغي التوقف عنده أيضا، حسب مراقبين، أن المؤرخ يكون قد أطلق تصريحات اختبار حينما لم يوضح الصفة التي يتحدث بها، كباحث مستقل أو كمستشار رئاسي، علما أن الناطق الرسمي المعين من طرف الرئاسة الفرنسية هو رامور كميلر الذي عين مديرا في الإليزيه مكلفا بالذاكرة، وهو المخول رسميا بالحديث عن مصير اللجنة المشتركة.