38serv

+ -

 لا ريب أن للدين مكانة هامة في حياة الناس، بل الدين –ومن ثم التّديّن- روح الحياة!، فالحياة إذا فقد منها الدين فقدت معناها، ويبست وأقفرت وذوت نضرتها بغلبة المادية الطينية، وفتحت على الناس أبواب الشرور والجرائم، والقلق والانتحار... إلخ.

ولا شك أيضا أن نظرة الناس للتديّن متباينة، ومواقفهم منه ومن أهله مختلفة، بسبب اختلال الفهوم، وتفاوت المدارك من جهة، وبسبب أنماط التديّن الرائجة وأصناف المتدينين من جهة أخرى، وليس المقصود من هذه الكلمة تحليل هذا الأمر، بل أتجاوزه للوقوف على معان هي لب التديّن وأسّه يغفل عنها كثير من الناس، وذلك بالرجوع إلى قدوة الناس جميعا وأسوة المتدينين خصوصا، خاتم الأنبياء وإمام العلماء عليه أزكى صلاة وسلام، فهو الذي جاءنا بالدين الحق من ربه عز شأنه، وهو أتقى من ركع وعبد وسجد، وهو القدوة لكل متدين، فكل تدين يخالف طريقته وسنته وهديه فهو تدين مرفوض بقدر مخالفته لهديه، وهو حجة على صاحبه وليس بحجة على الدين وأهله!.

وفي هذه العجالة نقف وقفة عجلى مع معنى عظيم من معاني التديّن، له موقع ظاهر وحضور قوي في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وغياب بارز في واقع كثير من المتدينين، هذا المعنى العظيم هو الحرص على هداية الناس. نعم إن مما يزعج كثير من الناس هو تحول التديّن إلى محاكمة شاملة للناس، وتصنيف لهم في مواقع معينة مذمومة شرعا أو ممدوحة: تفسيقا أو تبديعا أو تكفيرا، هذا الأخير الذي حرمه الشرع تحريما شديدا. ويتطرف البعض للحكم بالجنة أو النار لبعض الناس، وهذا انحراف خطير وعجب عجاب!!.

ولما نرجع إلى هدي نبينا صلّى الله عليه وسلم نجد غير ذلك، بل نجد الحرص الشديد على هداية الناس، كما أثبت الله ذلك في القرآن الكريم، يقول الحق سبحانه: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} والمعنى: لا تهلك نفسك -أيها الرسول الكريم- هما وغما، بسبب عدم إيمان هؤلاء المشركين. وبسبب إعراضهم عن دعوتك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. ومثلها: {لعلك باخع نفسك أَلا يكونوا مؤمنين}. ويقول الحق سبحانه: {أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} والمعنى كما يقول الشيخ ابن عاشور رحمه الله: “أفتتحسر على من زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنات، واختاروا لأنفسهم طريق الضلال؛ فإن الله أضلهم باختيارهم، وهو قد تصرف بمشيئته، فهو أضلهم وهدى غيرهم بمشيئته وإرادته التي شاء بها إيجاد الموجودات لا بأمره ورضاه الذي دعا به الناس إلى الرشاد، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وإنما حسرتهم على أنفسهم إذ رضوا لها باتباع الشيطان ونبذوا اتباع إرشاد الله كما دل على ذلك قوله: إن الله عليم بما يصنعون تسجيلا عليهم أنهم ورّطوا أنفسهم فيما أوقعوها فيه بصنعهم”. ويقول الحق سبحانه: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين}، وكل هذه الآيات تصور لنا حرص النبي الرؤوف الرحيم عليه السلام على هداية الناس الذين آذوه أشد الإيذاء، وكذبوه أشنع تكذيب، وحاربوه أضرى حرب، فكيف بغيرهم ممن ليس مثلهم!!. وسيرته العطرة خير شاهد على هذا الحرص النبوي على هداية الناس ودخولهم في الخير الذي جاء به، وهي القدوة لمن يقتدي.

إن الذي يتشرب قلبه الدين الحق، ويتذوق حلاوة الإيمان، ويزهو فؤاده بطمأنينة الإيمان ونور الطاعات، سيصير من أحرص الخلق على هداية الناس إلى الخير الذي أكرمه الله به، فالقاعدة النبوية الإيمانية تقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأَخيه ما يحب لنفسه»، وعليه فالتديّن الذي لا يدفع صاحبه للسعي لهداية الناس تدين ناقص، أما التديّن الذي يدفع صاحبه لمعاداة الناس ويفرح بهلاكهم على الكفر والضلال، فتدين منحرف!.

* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة