تلتقي غالبية دور النشر العربية المشاركة في المعرض الدولي للكتاب في قناعة مفادها أن الجزائر لها الاستثناء الذي يميزها عن باقي العرب، وهو الإقبال الكبير على اقتناء الكتاب، ولو أن بعض المثقفين وأصحاب دور النشر يرون أن الكتاب المعرفي النخبوي المفترض أن يوقظ ويشعل الوعي لدى الناس لابد أن يجد مكانه في الساحة بدل أن تحتلها الكتب الصفراء التي تختبئ وراءها الذهنية التجارية، وليتم ذلك لابد أن تلتفت الحكومات من حولها لدعم الكتاب وسن سياسة توزيعه، بينما يبدي آخرون تفاؤلهم بنجاح الطبعة الـ27 بالنظر إلى الإقبال الكبير على المعرض الدولي.
يشكل المعرض الدولي للكتاب واحدة من أبرز التظاهرات الثقافية والعلمية في الجزائر، حيث لايزال يلقى مشاركة واسعة من عام لآخر من لدن دور النشر القادمة من عشرات الدول، إنه محفل مفتوح للمثقفين والقراء والكتاب على اختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم ممن ينتظرونه كل عام بفارغ الصبر.
إنها تظاهرة احتضان الكتاب المهدد بقيامة التطور التكنولوجي والعولمة التي لا تبقي ولا تذر.. نعم، فعل القراءة الذي كان يفترض أن يأخذ حقوقه الكاملة حتى يصبح الحزام الذي يشكل المناعة الثقافية لدى الشعوب ضد التخلف، ضد الجهل، ضد التطرف، ضد العنصرية وضد الهويات القاتلة حتى تمد جسور التواصل مع ذواتنا ومع الآخر.
ثورة القراءة... امتداد لثورة نوفمبر
فعند منتصف نهار يوم السبت المصادف للتاسع من شهر نوفمبر الجاري، كانت الأجواء بمحيط المعرض الدولي للكتاب الذي يحتضنه قصر المعارض بالعاصمة أشبه بعرس يشارك فيه جل أبناء الجزائر ممن قدموا من كافة ولايات الوطن، كما لو أنه فرصة لا يجب تفويتها. فمند منتصف النهار حتى غروب الشمس، تواصل تدفق الناس على نحو لافت، نساء ورجال وشباب وأطفال، إنه مشهد، قال عنه الحاضرون من العرب، يصنع الاستثناء في الوطن العربي، بل قالوا: "إننا اعتدنا عليه خلال الطبعات السابقة.. ".
وقد صادف تنظيم هذه التظاهرة الثقافية ذكرى مرور سبعين (70) عاما على تفجير ثورة الفاتح من نوفمبر، وما أجمل أن تكون "الثورة" ملهمة لجعل "القراءة" ثورة أخرى باتجاه تنمية الوعي والثورة على الجهل ومد مزيد من الجسور مع الثورة الخلاقة للعلوم والتكنولوجيا وخلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني للخروج من متلازمة الريع اللعينة.
هي الرسالة التي قدمها رئيس مجلس الأمة، صالح ڤوجيل، بمناسبة افتتاح المعرض الدولي للكتاب، قرأها نيابة عنه أحمد خرشي، نائب رئيس المجلس، جاء فيها: "بعد سبعين عاما من اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر، لا تزال روحها سارية فينا، تضخ مبادئها في الحياة وتنير قيمها دربنا شعبا وقيادة نحو مزيد من الانتصارات في مراحل البناء والإصلاح والتغيير..". وأضاف: "ستواصل الجزائر انتصاراتها بعقول الأجيال الجديدة المستنيرة بالعلم والإبداع والفكر السديد.."، قبل أن يختم: "توجه بلادنا نحو اقتصاد المعرفة والابتكار والتكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي يتطلب تضافر جهود أبنائها وتمكين الشباب من المهارات لنوعية اللازمة ولاسيما أنهم يقودون اليوم قاطرة اقتصاد بلادنا عبر المؤسسات الناشئة...".
وفعلا، كان التدفق على صالون الكتاب من قبل الشرائح الشبانية هائلا، فقد فتح قرار الرئيس عبد المجيد تبون القاضي بإقرار تعليم اللغة الإنجليزية في أطوار التعليم والتعليم الجامعي ومراكز البحث الشهية أمامهم للقراءة بلغة عالمية بعدما كان الأمر مقتصرا منذ أزيد من نصف قرن على اللغتين العربية والفرنسية. إنه قرار تاريخي وسيادي من شأنه فتح الجزائر على الثراء والتنوع المعرفي والعلمي بما يتيح لها مد الجسور أكثر مع الإبداع والابتكار والتكنولوجيا والخروج من مستنقع الفرانكفونية.
وما عرفناه أثناء تجوالنا بفضاء الكتاب، وحديثنا إلى عدد من دور النشر الممثلة لعدد من البلدان، هو أن كثيرا من دور النشر العربية تريد الاستثمار أو اللعب على جزئية هذا الاختلاف الذي يميز الجزائريين لبيع كتبها ونسج علاقات مع القراء.
اعتراف عربي بقوة الإقبال
يقول صاحب دار النشر (دار النهضة) المصرية، تأسست سنة 1960، من كبرى دور النشر المتخصصة في العالم العربي: "هناك إقبال كبير من قبل الجزائريين على اقتناء الكتاب.. عرفنا أن هناك من قدم إلى المعرض بعد أن قطع 1000 كلم... ونحن بدورنا نحرص على مساعدة هؤلاء في جانب تخفيض السعر... ولاسيما بالنسبة للطلبة ممن يحضرون الدكتوراه والماجستير والماستر..". ومع أنه يشير إلى افتقاد الجزائر بعض الوسائل التكنولوجية التي تدخل في تنظيم المعرض مثل أجهزة البحث وماكينات صرف العملات، إلا أنه يشير في الوقت ذاته إلى وجود تطور في التنظيم من جانب إجراءات الاشتراك، المتابعة، دخول الناشرين.. وهو الذي عاد ليؤكد مرة أخرى "المهم بالنسبة لنا كدار النهضة العربية للنشر هو زوار المعرض، في الجزائر يوجد إقبال كبير على المعرض.. الناس هنا يحبون القراءة بشكل كبير.. الكتاب الورقي مازال يفرض نفسه رغم بداية توجه بعض الناس إلى الكتاب الإلكتروني..".
وأصبح للعرب ألفة مع المعرض الدولي للكتاب ممن يرون فيه قيمة مضافة لنشاط دور النشر، على نحو ما يشير إليه (زياد مخللاتي)، صاحب دار النشر العصماء من دمشق: "أنا أشارك في المعرض الدولي منذ 10 سنوات، فمعرض الجزائر هو حاليا في تحسن دائم، سواء من حيث عناوين الكتب أو الاشتراكات..". ويرى أن "الجزائر من البلدان التي تدعم الكتاب من حيث فرق العملة، أي سعر البنك، وهذا يعود على الناشر والقارئ بالفائدة.. وهذا يشجع العلم والمعرفة.."، بل ويصنف المجتمع الجزائري ضمن الشعوب والمجتمعات التي لا تزال تصنع الاستثناء قائلا: "إذا كان الإقبال على الكتاب بدأ يخف من عام لآخر في الدول العربية، فإن هذا الكلام لا ينطبق على الجزائر، فهناك إقبال متزايد كل عام، لأنه يوجد دعم للكتاب وقراء مهتمون به..". وتختص دار النشر العصماء في الجانب التربوي والأكاديمي الجامعي وعلم الاجتماع.
من جهته يدافع أيمن الغزالي، كاتب وناقد وصحفي، صاحب دار النشر (نينوي) من دمشق، عن الكتاب النخبوي ويأمل أن يحتل مكانة في الوطن العربي، حيث قال: "نحن نحب الجزائر شعبا وحكومة وهناك قرابة روحية بين الشعب السوري والجزائري، نحن ننشر الكتاب النخبوي الهادف إلى بث الوعي في العقل العربي، ومع الأسف في كل معارض الوطن العربي أصبح لهذا الكتاب زائر قليل على عكس الكتاب الرائج..".
إنقاذ الكتاب..
وبدا أيمن الغزالي كما لو أنه كان يعقد الأمل على معرض الجزائر لإعطاء دفع للكتاب النخبوي قائلا: "معرض الكتاب بالجزائر مهم جدا، بل هو من أهم المعارض في الوطن العربي من جانب رواد المعرض وهذا سيكون له أثر. إذ هناك فرق بين الشعب الجزائري وباقي الشعوب العربية، فعدد الزوار الذي لا يستهان به يدل على أن هناك ثقافة علمية معرفية وهناك رغبة في المعرفة والاطلاع...". ومع ذلك، لا يتردد هذا الكاتب الدمشقي في وضع أصبعه على مشكل الكتاب في العالم العربي، وهو مشكل توزيعه. فشبكة التوزيع تتعامل مع الكتاب الرائج، مع أن هذا النوع من الكتب، حسبه، لا يحمل المعرفة، لذلك يبقى الكتاب المعرفي النخبوي على الرف، وصاحب المكتبة لا يقتنيه، يبيع منه نسخة أو نسختين، بينما الكتب الصفراء يبيع منها آلاف النسخ، فهو يطمح للربح المادي أكثر من المعرفة. إذ وعلى هذا النحو اختفت أصوات مثقفة ودور نشر ومكتبات شهيرة.
لكن كيف نعيد الروح للكتاب؟
يجيب المتحدث "الحكومات العربية لابد أن تلتفت من حولها لإنقاذ مكانة الكتاب، لأن القطاع الخاص ليس بوسعه أن يفعل شيئا لوحده.."، لافتا إلى أن الكتاب الإلكتروني عكس ما يروج له لم يسهم في تراجع الكتاب الورقي بل ساهم في رواجه، والدليل على ذلك أن عدد دور النشر المشاركة في معرض الكتاب بالجزائر قبل 10 سنوات كان النصف واليوم يوجد ضعف العدد.
غزة.. من تحت الركام إلى المعرض.. !
وفي تحد غير مسبوق، فضلت غزة المحاصرة أن تكون حاضرة في المعرض الدولي للكتاب بتمثيل من واحدة من كبرى دور النشر بغزة وهي دار النشر (أنيس منصور)، وقال ممثل دار النشر: "خرجنا من تحت الأنقاض بهذه الدار التي تم هدمها بالكامل وجئنا للمشاركة في المعرض، ومشاركتنا كانت بكتب وروايات جميعها تتحدث عن الموت في قطاع غزة، منها روايات لأسرى كروايات هيثم جابر والدكتور محمود عساف..."، في رسالة واضحة إلى العالم أن "غزة مستعدة لكسر الجدار أو اختراق السقف.. غزة مازالت تقاوم".
من جهتها كانت دولة قطر ضيف شرف الطبعة الـ27 للمعرض، بعد آخر مشاركة لها سنة 2014، وقد صرح ممثل وزارة الثقافة القطرية لـ"الخبر" قائلا إن "مشاركة قطر بصفتها ضيف شرف تمثلت في كتب وإصدارات تتحدث عن شخصيات قطرية، والهدف من المشاركة هو تعريف الشعب الجزائري بعادات وتقاليد الشعب لقطري..."، قبل أن يواصل: "ما لحظناه والحمد لله أن الشعب الجزائري متلهف ومتعطش لمعرفة عادات وتقاليد الشعب القطري خصوصا أن هناك علاقات قوية ووثيقة بين البلدين...". لكن ما لحظناه في الجناح القطري هو وجود كتب وإصدارات، بينها كتب إلكترونية منها (code - barres).
الكتاب محروم من التأشيرة.. !
ينظر الروائي جيلالي خلاص إلى الطبعة الـ27 المعرض الدولي للكتاب نظرة متفائلة، حيث قال: "أتوقع أن تكون طبعة ناجحة قياسا بعدد الزوار المتصفحين لعناوين الكتب، وهو بوابة للسنة الجديدة للكاتب والقارئ الجزائري.."، ولو أنه يأسف لسياسة توزيع الكتاب في العالم العربي قائلا: "العرب اليوم ليس لهم شبكة توزيع مشتركة للكتاب، الكتاب العربي صعب توزيعه في الأوقات الحالية...". وتابع: "صعب لأن التأشيرة لا تمنح للكتاب، مازال صعبا أن يمنحوك تأشيرة إدخال كتابك إلى بلد خر، لذلك نتمنى أن تنفرج الأمور ويسرح الكتاب من عقله..".
في غمرة الأجواء التي ضاقت بالزوار، كانت بعض الندوات الفكرية قد انطلقت لإعطاء التظاهرة الثقافية بعدا وزخما آخر يغري باقي المثقفين للانخراط فيما لم يصل إليه ضجيج الزوار، بينما كان بعض من أصحاب دور النشر يتحدثون عن سعر الكتاب الذي ظل مرتفعا وراح يعرف انخفاضا نسبيا.
يقول صاحب دار النشر "العثمانية": "إن سعر الكتاب مازال مرتفعا ولو أنه عرف انخفاضا طفيفا مقارنة بالسعر الذي كان عليه خلال مرحلة كورونا... ارتفاع سعره سببه غلاء سعر الورق في السوق العالمية... ومع ذلك ظل الكتاب الورقي مطلوبا أكثر من الإلكتروني..".
تسريع التاريخ.. !
يمكن القول إن الدولة الجزائرية بوسعها الالتفات من حولها بإعادة النظر في سياسة دعم وتوزيع الكتاب على نحو عقلاني وجدي لتلامس القراءة البنيات العميقة للمجتمع، تصل إلى الأرياف والقرى ومناطق الظل، خصوصا أن الجزائر كان لها مؤسسة لتوزيع الكتاب.
إن عملية تسريع التاريخ في العالم جعلتنا نقفز إلى مرحلة اللحاق بالأوعية التكنولوجية ونحن لم نشبع من أوعية ما هو مكتوب (القراءة)، أي حدث لنا مثل الرضيع الذي حرم من حليب أمه وأعطيناه وجبة غير مناسبة له، على عكس كل الدول الأوروبية التي تشبعت شعوبها بالقراءة، كانوا يقرأون في البيوت في الحدائق، في الترامواي، في الطائرات، في الميتروات، في المراحيض..، إنهم عاشوا مرحلة القراءة التي منحتهم مناعة ثقافية ثم انتقلوا إلى ما هو تكنولوجي، لماذا تم جرنا وراءهم ونحن لم نشبع مرحلة القراءة؟.