+ -

إن مشاهد المجازر وآثار الدمار، وأنهار الدماء الطاهرة، وأنّات الجرحى والمهجّرين والمقهورين في غزة ولبنان تقطع نياط قلوب المؤمنين، بل تقطع نياط قلوب من لا تزال فيه بقية من فطرة حتى من اليهود والملحدين!، وقد حركتهم طيلة هذه الشهور مناصرة لغزة وأهلها، ولكن هناك ألم معنوي يقهر نفوس المؤمنين ويغم قلوبهم، الألم المعنوي الذي يسببه هذا الخذلان المريب المشين من العرب والمسلمين، الذي يتعجب منه حتى الصهاينة!.

أليس عجيبا أن يخذل العرب والبربر والأتراك والأكراد... وغيرهم من الأجناس الذين صبغهم الإسلام لقرون عدة بصبغته: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة}، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} إخوانَهم في غزة ولبنان؟!، نعم هناك منهم ملايين وملايين دجّنهم التغريب، ومسختهم الحداثة والعلمانية، ولوّثت فطرتهم، وأفسدت عقولهم، وأذهبت نخوتهم، نتفهم برودتهم وخذلانهم وعدم اهتمامهم بالقضية الفلسطينية وكل قضايا المسلمين، وكيف لهؤلاء أن يتأثروا لما يعانيه الغزيين ويغاروا على أعراض المسلمين، وهم فقدوا الغيرة على أعراض أقرب الناس إليهم: زوجات وبنات وأخوات، يذرعن الطرقات كاسيات عاريات!، فهل يغار هؤلاء على إخوانهم وأخواتهم البعداء من المسلمين؟!، وهل يغار هؤلاء على مقدساتهم؟!، وهل بقيت عندهم غيرة أصلا؟!، وهل بقيت لديهم مقدسات أصلا؟!.

هذا نتفهمه، ولكن ما بال المتدينين؟، ما بال الدعاة؟، ما بال العلماء؟، أو قل: بعض المتدينين، وبعض الدعاة، وبعض العلماء؟، كيف وصل بهم الأمر إلى هذه الحال العفنة؟ التي يتصهين فيها متدينون ودعاة وعلماء دين؟، لقد تتبعت القنوات الدينية الإسلامية فوجدت كثيرا منها في واد والأمة في واد آخر، مثلا: قناة مكة الناطقة باسم الحرم المكي قبلة المسلمين تواصل برامجها في بُلهنية، وكأن شيئا لا يحدث في هذا العالم؟، لا تلتفت إلى ما يحدث في فلسطين وغزة ولبنان أدنى التفات، ولو بدعاء على شريط أسفل الشاشة؟، ومثلها كثير: قناة الرسالة، قناة إقرأ، قناة الناس، قناة الأزهر، مختلف قنوات القرآن في كل الدول العربية والإسلامية... إلخ، فأي دين يؤمنون به؟!، وأي دين يدعون له؟!، وفي أي عالم يعيشون؟!. طبعا الحمد لله توجد قنوات إسلامية لم تقصر: قناة الأنيس الجزائرية، قناة الاستقامة، قناة دعوة... إلخ، ولكن أنبه على تلك القنوات المتصهينة، التي يعلم القائمون عليها أن السكوت في هذه المرحلة هو مشاركة في الإبادة وليس تواطأ أو تقصيرا، ويصرون على السكوت والتجاهل!. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون}.

وكثير من المتدينين لا علاقة لهم بقضية فلسطين أصلا، ولم تحرك فيهم الإبادة الجماعية في غزة والمجازر في لبنان شيئا، فالأمر لا يعنيهم البتة، وهم حريصون على المستحبات والمندوبات، وحريصون على التّمتع بالحياة طبعا، وكم يزعجهم الكلام على المقاطعة الاقتصادية!، هل يتركون (الماركات) العالمية؟!، وهل يتركون الكوكا والبيبسي؟!، وكيف تحلو الحياة بدونها.. وأين المشكل؟!، فحماس والقسام مبتدعة إخوانٌ مسلمون؟!، وحزب الله رافضة أمرهم بيّن... أما الصهاينة والأمريكان فلم يحدثهم شيوخ محاربة المبتدعة عنهم!، فلا خطر منهم!، ألم يردد كثير من شيوخ السلفية والمدخلية لسنوات قالة السوء والعار: (الإخوان المسلمون أخطر من النصارى واليهود!!).. هل يفهم الشباب والدعاة والعلماء الذين انخرطوا في هذا سابقا ماذا كان يحضّر بمثل هذه الأفكار المسمومة والشعارات الملغومة؟!، وإلى أين أوصلنا؟!.

بيد أن وصول التصهين إلى من يعدهم الناس دعاة وعلماء هي حقا وصدقا إحدى الكُبَر!، ولو لم نره واقعا ونعايشه لما صدقنا حدوثه!، فقبل سنوات لو تخيّل أحدهم مجرد التخيل أنه سيوجد من يرفع شعار الدعوة والعلم يناصر الصهاينة ويقف ضد المجاهدين، ويتنكر للقضية الفلسطينية لَما أسعفاه الخيال في تحقيق مراده!، ولكن عشنا ورأينا وسمعنا (دعاة وشيوخا) يشنّون حربا على حماس والقسام وحركة الجهاد موازاة لحرب الصهاينة لهم، وما هذا إلاّ دعم للصهاينة وموالاة للكافرين دون المؤمنين لا ريب ولا شك فيه، وحتى إن كنا جميعا نعلم أن هذا نتيجة للانخراط في مشاريع ولاة أمورهم، فهذا لا يبرئهم من التصهين والخيانة، ولا يقوم عذرا لهم، بل هم يسألون ابتداء عن تأليههم لولاة الأمور الذين خرجوا على شعوبهم، وداسوا على أحكام الدين وكرامة الإنسان!، فــ «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» رواه الحاكم وغيره. غير أن أشباه الدعاة والمشايخ هؤلاء يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وهم لا يذكرون الآيات والأحاديث الناهية عن الظلم، المتوعدة للظالمين!، ولا يذكرون الآيات والأحاديث الواردة في موالاة المسلمين والبراءة من الكافرين!، ولا يذكرون الآيات والأحاديث الواردة في الجهاد والاستشهاد!، ولا يذكرون الآيات والأحاديث الواردة في نصرة المؤمنين والمستضعفين!، هم مساكين معذورون ينسون هذه الآيات دون تعمّد!، والويل كل الويل للذي ينتقد (ولي الأمر) الذي نال الحكم وراثة أو انقلاب هنا يذكرون كل ما قيل في الباب... لقد هزلت حتى بدا من هُزالها كلاها!. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون}. ويا ليتهم ذكروا قول الحق سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.

إن الموكّد أن هذا الحال هو نتيجة لسنوات من العمل والتخطيط، ففي الوقت الذي كنا مشغولين فيه بالقضايا الجزئية والجدالات الفقهية والعقدية، والحكم على المشايخ والجماعات مما زجنا فيه بعض التيارات تحت شعارات خلابة خداعة كان الصهاينة ومناصروهم من (العرب والمسلمين) يخططون وينجزون مشاريعهم التطبيعية على كل المستويات، وفي غفلة منا انطلق قطار التطبيع بين المتدينين والدعاة والمشايخ، ونفّذت مشاريع بُذل فيها أموال وأموال من خزائن الدول الإسلامية لتحقيق مشاريع صهيونية!، لُمّع فيها أشباه دعاة ومشايخ، ونشرت تيارات، وتكاثرت مواقع (إسلامية) على الشابكة تكاثر الفطر، وظهرت فضائيات دينية كثيرة لمّعت هؤلاء، وأشاعت أسماءهم وفكرهم المنحرف بين الجماهير، القائم أساسا على مهاجمة العلماء والدعاة الصادقين وصولا للمجاهدين والمقاومين، فأثّروا ما أثروا في عموم المسلمين الذين غرقوا في بحر الفوضى الدينية، واغترّ كثير منهم بالشعارات البراقة الخادعة، فضلوا من حيث حسبوا أنفسهم مهتدين، وذلك هو الخسران المبين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

إن الواجب يحتم علينا الاعتراف أننا جميعا كنا دون مستوى هذا المكر، فلم يكن في مستواه أو أعلى منه إلا أولئك الثلة من الطائفة الناجية المنصورة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الذين كانوا خلال غفلتنا يحفرون أنفاق غزة المباركة، ويصنعون سلاحهم بما توفر لديهم من إمكانات محدودة جدا، بعيدا عن أعين الناس، وإعجابات مواقع التواصل، وضجيج المثبطين من المنافقين، وفي مقدمتهم، «المنافقون، العليمو الألسن، المجادلون بالقرآن»، الثلة الذين استجابوا لقول الله جل في علاه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم}، ولا ريب أن المتصهينين من المتدينين وأشباه الدعاة والمشايخ داخلون تحت وصف {.. وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم}، فتأمّل.

* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة