يروي الشيخان في صحيحيهما من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى...”. هذا الحديث العظيم من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولأهميته افتتح به كثير من أهل العلم كتبهم كالإمام البخاري في صحيحه، والإمام النووي في رياضه، فالإخلاص ركن العمل وأساسه، وأصل من أعظم الأصول، علمه خير علم، وفقهه خير فقه، فيه رضا الرحمن وراحة القلوب، ونجاة النفوس، وعلو المنزلة في الدنيا والآخرة.
اعلم، رعاك الله، أنه لا قيمة للعمل بدون نيّة، وليس لك إلا ما نويت، فالنيّة تحوّل العادة إلى عبادة، فإذا غابت النيّة، أصبحت العبادة عادة، وجسدا بلا روح، قال مالك بن دينار: “الخوف على العمل ألا يقبل أشدّ من العمل”، إننا نستطيع أن نجعل حياتنا كلها لله، فنجعل ساعات العمل والوظيفة عبادة نؤجر عليها، ونستطيع أن نجعل ابتسامتنا وبيعنا وشراءنا نهرا من الحسنات يصب في سجلاتنا، قال زبيد بن الحارث: “أحبّ أن يكون لي في كل شيء نيّة، حتى في طعامي”.
لقد أخلص الأوائل من سلف هذه الأمة، فكان نومهم وطعامهم وشرابهم عبادة، فلذلك ترى البركة في أعمالهم، والنور في أقوالهم، والقبول لمصنفاتهم وكلامهم، فهم أحياء بأعمالهم وأقوالهم، أموات بأجسادهم، والسبب الإخلاص الذي انتهجوه في حياتهم، قال الفضيل بن عياض: “العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله”. ومن هنا، فلنسأل أنفسنا هل كل عمل نعمله لله، وكما جاء عن رسول الله: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.
وهذه صفحات مشرقة من أحوال السلف في إخلاصهم، لعلها تكون يقظة لقلوبنا من الغفلة ودعوة إلى الصدق والإخلاص، قال الربيع بن خيثم: “كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل”، ووصى الإمام أحمد ابنه قائلا: “يا بني، انو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير”، وسأل رجل شقيق بن إبراهيم: إن الناس يسمونني صالحا، فكيف أعلم أني صالح أو غير صالح؟ فقال: “أظهر سرك عند الصالحين، فإن رضوا به، فاعلم أنك صالح وإلا فلا”، أي: أحسن ما بينك وبين الله من أسرار، وإلا فالمؤمن مطالب بالستر على نفسه.
وكان محمد بن يوسف الأصبهاني “لا يشتري زاده من خباز واحد”، ويقول: “لعلهم يعرفونني فيحابونني، فأكون ممن يعيش بدينه”، وكان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطاه، وقال الشافعي: “وددت أن الخلق تعلموا هذا على ألا ينسب إليّ حرف منه”، وكان ابن المبارك رحمه الله يضع اللثام على وجهه عند الغزو، قال عبدة بن سليمان: فأخذت بطرفه فمددته، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا، أي: يفضحنا. وقال خلف بن تميم: رأيت سفيان الثوري بمكة وقد أكثر عليه أصحاب الحديث، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخاف أن يكون الله ضيّع هذه الأمة حيث احتيج إلى مثلي، وقال محمد بن واسع: “لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي”، وقال أيضا: “لقد أدركت رجالا، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة؛ قد بلّ ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جنبه”.
فالإخلاص ليس صعب المنال، بل هو فطرة فطر الله الناس عليها، ولذا فأمره سهل ميسور على من يسره الله عليه، وجد في طلبه، وجاهد نفسه من أجله.. والله ولي التوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب
- بن غازي - براقي