يرى الباحث في علم الاجتماع، نوري دريس، ضرورة التفكير في طرق أنجع لبناء الشخصية الوطنية، حتى لا تتحوّل مناسبات الثورة إلى مجرد فلكور منزوع من القيم التي ضحّى من أجلها الشعب الجزائري في فترة الاستعمار. ويؤكد دريس بوصفه مدرسا في الجامعة لسوسيولوجيا الحركة الوطنية، في حواره مع "الخبر"، أنه رغم الثقافة المحدودة التي يظهرها جيل اليوم في فهم تاريخ الثورة ومعرفة أحداثها، إلا أن الشباب الجزائري يبقى يحمل في داخله شعورا رافضا لفرنسا، ويؤكد أن هذا لا يتناقض مع رغبة الكثيرين في الهجرة لتحسين أوضاعهم. ويرصد الباحث، من جانب آخر، تقاطعات الثورة الجزائرية مع ما يجري في فلسطين اليوم من معركة، مبرزا أن الهدف، حتى وإن اختلف الزمان والمكان، يبقى واحدا.
كيف تتعاطى الأجيال الجديدة في نظركم مع الثورة، هل باعتبارها تاريخا أم بوصفها واقعا تشعر بثماره اليوم؟
من الصعب الإجابة على هذا السؤال بشكل دقيق، والسبب غياب دراسات مسحية حول الشباب والثورة والتاريخ. الجامعة عاجزة عن إنتاج دراسات حول هذا الجيل، وحول المجتمع بشكل عام. ومع ذلك، سأحاول أن أجيب على هذا السؤال انطلاقا من تجربتي الشخصية. أشرف منذ سنوات على مقياس سوسيولوجيا الحركة الوطنية، الموجه لطلبة علم الاجتماع (ماستر)، ولاحظت أن معارف الطلبة حول التاريخ الوطني فقيرة جدا، وأحيانا منعدمة، والموجود منها سطحي، وهذا هو السبب الذي يجعل شباب اليوم في غالبه يتعاطى مع ثورة التحرير كفلكلور، يحتفل به مناسباتيا. الكثير من الشباب لم يعد يفرق بين تاريخ اندلاع ثورة نوفمبر وبين تاريخ الاستقلال، وهذا الخلط سائد حتى بين صفوف الطلبة الذين أدرسهم.
كيف وصلنا إلى هذا؟ لا أستطيع تقديم إجابة، ولكن من الواضح أن السردية الوطنية لم تعد تنتقل بشكل مناسب إلى الأجيال الجديدة، والمسؤول الأول عن الفشل هي المدرسة بشكل خاص والنظم التعليمية بشكل عام. تنفق الدولة كل سنة أموالا طائلة في المهرجانات والاحتفالات المخلدة لمختلف محطات تاريخنا المجيد، وطبعا هذا ضروري لغرس التاريخ في الأجيال، وتنفق أموالا ضخمة على المدرسة الجزائرية والجامعة، ولكن يبدو أن النتائج (أو الثمار) على الأقل في مجال التاريخ، تبدو مخيّبة فعلا، وتدفع إلى ضرورة التفكير في طرق أنجع لبناء الشخصية الوطنية، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تنافس المدرسة والجامعة، وتستطيع بسهولة بناء سردية مضادة تهدّد تجانس الأمة الجزائرية.
ما هي الأشياء التي تؤثر في الجيل الجديد بخصوص الثورة، هل السرديات في كتب التاريخ أم المحكي العائلي؟
للأسف، لا هذا ولا ذاك. سأجيب دائما انطلاقا من تجربتي الشخصية، يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي قد اكتسحت كل المجالات، بما في ذلك الأكثر حساسية، مثل السردية الوطنية والتاريخ والثورة التحريرية الكبرى. معظم شباب اليوم يستقي معلوماته ويبني تصوّراته انطلاقا من الجدالات التي تكون وسائل التواصل الاجتماعي ساحة لها، لقد عاشت الجزائر بين سنة 2013 و2023 معارك طاحنة حول التاريخ والذاكرة والثورة والرموز الوطنية، وشهدنا طعنا في رموز الجزائر: الأمير عبد القادر، مصالي الحاج، عبان رمضان.. من طرف حسابات مجهولة، قد تكون مموّلة ومسيّرة من الخارج. هذه التجربة بيّنت لنا أن التاريخ هو أرضية معركة، وذخيرة حرب كذلك، ومدخل مهم لتفتيت الأمم. للأسف، يمكن القول إن المدرسة الجزائرية، والعائلة الجزائرية، ومؤسسات الذاكرة هزمت أمام حسابات فيسبوكية مجهولة.
بالنظر لما تقوله، كيف ينظر الجيل الجديد اليوم إلى العلاقة مع فرنسا؟
ربما الناجي الوحيد من الذاكرة هي نظرة الشباب نحو فرنسا، فرغم الفقر الفكري الكبير الذي يميّز هذا الجيل فيما يخص معارفه بالثورة الجزائرية، إلا أنه لا يزال يحمل شعورا رافضا لفرنسا. ولكن، يجب أن ننتبه أن هذا الجيل مثل جيل الأمس تماما، صحيح أنه على مستوى الخطاب يبرز شعورا معاديا لفرنسا، ولكنه يبقى مستعدا للهجرة إليها لتحسين ظروف عيشه، أي أن الشباب لا يرى في ذلك تناقضا، بل حالة عادية جدا، كانت موجودة حتى عند أجدادنا الذين هاجروا إلى بلد مستعمرهم للبحث عن حياة أفضل. يجب أن نشير إلى أن هذه المفارقة ليست خاصة بالحالة الجزائرية، بل بجميع المستعمرات تقريبا، وقد أعادت الانتفاضة الفلسطينية الجارية الوهج الثوري وروح المقاومة إلى الواجهة.
هناك استشهادات كثيرة تربط ما يجري في فلسطين مع تاريخ الثورة الجزائرية، ما هي أبرز التقاطعات بين الثورتين في رأيك؟
إن ثورة عظيمة مثل الثورة الجزائرية ستبقى ملهمة لجميع الحركات التحرّرية في العالم، خاصة بالنسبة لإخواننا الفلسطينيين الذين يكنّون احتراما كبيرا للجزائر التي يسمّونها دائما بلد المليون ونصف المليون شهيد. لكن ليس هذا فقط ما يجعل الحالتين متشابهتين، فطبيعة الاستعمار كذلك تجعل من ردة الفعل عليه متشابهة. الجزائر عانت من أبشع استعمار خلال القرنين الماضيين، ويبدو أن الاحتلال الصهيوني استلهم منه الكثير من الممارسات: الاستيطان، الأرض المحروقة، محاولة مسح الهوية، التمييز العنصري، التعذيب، القوانين الاستثنائية، استهداف المدنيين، حرق القرى وتدميرها، استخدام الأسلحة المحرّمة دوليا، تواطؤ النظام الدولي، إن كل هذه التشابهات تجعل من ثورتنا المجيدة مصدر إلهام للفلسطينيين. عاشت الجزائر مرحلة ما بين الحربين كمرحلة كفاح سياسي، لكن أحداث 8 ماي أيقظت الجزائريين وأقنعتهم أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لاستعادة الاستقلال. كذلك الفلسطينيين يبدو أنهم اقتنعوا أخيرا أن سياسة السلطة الفلسطينية في رام الله لم تأت بأية نتيجة، بالعكس، اتفاقيات أوسلو كانت مصوغا لالتهام الصهاينة جزءا كبيرا من الأراضي الفلسطينية.. طوفان الأقصى يشبه إلى حد كبير ثورة نوفمبر، من حيث أنه يمثل نقطة للاعودة في العلاقة مع الاستعمار..