الإعدام.. إستراتيجية فرنسية لتطويق انتصارات الثورة

+ -

تفننت السلطات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر في التنكيل والقتل وممارسة شتى أنواع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، سواء ضد الشعب الأعزل أو ضد المجاهدين والمناضلين السياسيين، وحتى ضد الأطفال والقُصّر. ومن بين أساليب القتل الهمجي التي قامت بها "راعية الحضارة الإنسانية والحريات والديمقراطية" القتل بالمقصلة، والتي تعتبر إحدى أبشع الجرائم التي قامت بها الإدارة الفرنسية وجيش الاحتلال ببلادنا على مدى قرن كامل من الاستعمار.

ويقلب المؤرخ جمال يحياوي، في حديثه مع "الخبر"، تلك الصفحات القاتمة في تاريخ فرنسا الاستعمارية، بقوله إن تنفيذ عقوبة الإعدام أو الإعدام العشوائي من طرف الإدارة الاستعمارية في فترة ثورة التحرير الوطنية وما قبلها، لا يزال ضمن الجرائم الكبرى التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية في الجزائر.

 

سقوط شعارات الحضارة الفرنسية الإنسانية

 

ولا تزال المراجع التاريخية التي بحوزة باحثينا تدين فرنسا التي بنت سياستها الترهيبية والقمعية على عقوبة الإعدام في الجزائر، وهو ما يكشف حسب الأكاديمي يحياوي "الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي، خاصة أن الدولة الفرنسية كانت تتغنى طوال القرن التاسع عشر والعشرين بأنها دولة حاملة للقيم الإنسانية والديمقراطية والمساواة والعدالة". فما تعرّض له الجزائريون بكل أطيافهم يسقط كل الشعارات التي رفعها ساسة باريس، خاصة أن الاستعمار الفرنسي عمل منذ أيامه الأولى على تكريس سياسة الإعدام الجماعي.

 

الإعدام والتنكيل.. ممارسة يومية لجنود وضباط الاحتلال

 

ويبرز محدثنا بأن عمليات الإعدام كانت ممارسة يومية بالنسبة للضباط والجنود الفرنسيين، شملت كل المناطق التي وصلوا إليها، بل هناك وثائق تؤكد بروز قادة عسكريين كان همّهم ممارسة القتل الجماعي، وكانوا يتباهون في مراسلاتهم لعائلاتهم في فرنسا بهذا العمل الجبان الذي كانوا يقومون به، كما كانت هذه الأعمال الوحشية سبيلا للترقية في الرتبة العسكرية. كما تشير المراجع والشهادات، يضيف الباحث في نفس السياق، إلى أن آلاف الجزائريين كانوا ضحايا لسياسة الإعدام الجماعي في تلك الفترة، أبرزها ما وقع في الحراش والشفة بالبليدة وعنابة وغيرها.

ما ميّز هذه المرحلة أيضا، يضيف المؤرخ، استخدام المقصلة التي يظن الكثير أنها استخدمت في سجن بربروس، ولكن الحقيقة أنها استخدمت سنة 1895 ضد الجزائري المقاوم أرزقي البشير في ساحة مدينة عزازقة، حيث قطعت رأسه بالمقصلة التي حملت بالباخرة من فرنسا إلى الجزائر ومن الجزائر برّا إلى تيزي وزو.

ولم يتوقف الإجرام عند هذا الحد، فأثناء الثورة التحريرية، تسارعت الأحكام بالإعدام ضد المسبلين والفدائيين، ولم يكن هذا العمل عفويا بل إستراتيجية اعتمدتها الإدارة الاستعمارية لمواجهة انتصارات الثورة الجزائرية عسكريا ودبلوماسيا، حسب ما يرويه جمال يحياوي في هذا الشأن.

 

كلما حققت الثورة انتصارات كلما كثف المحتل الإعدامات

 

فسياسة تنفيذ الإعدام من طرف المحاكم العسكرية الفرنسية يتابع محدثنا: "تعتبر وسيلة للحد من انتصارات جيش التحرير، ولتخويف السكان وإبعادهم عن القضية الوطنية". يؤكد نفس المصدر أيضا، أن الاستعمار الفرنسي لجأ إلى تنفيذ الإعدام ضد المناضلين المعتقلين في السجون الكبرى، خاصة في سجن بربروس في العاصمة، وسجن الكدية في قسنطينة، وسجن وهران.

ومن الشواهد التاريخية، بحسب ما ينقله الباحث في ملف الذاكرة، أن كل حملات أحكام الإعدام التي كانت تنفذها فرنسا إلا وسبقتها سلسلة من انتصارات جيش التحرير الوطني، مضيفا أنه "كلما حققت الثورة الجزائرية انتصاراتها داخل وخارج الوطن، إلا وزادت حدة تنفيذ الإعدام". فسلطات الاحتلال كانت تهدف، من خلال ذلك، إلى شغل الرأي العام الوطني والعالمي وإبعاده عن مواكبة انتصارات الثورة، من خلال تنفيذ الإعدام.

 

ويتابع نفس الباحث، في هذا السياق، أن ما ميّز هذه السياسة المنحى التصاعدي في السجون الكبرى، خاصة بين سنتي 1957 و1958، وهي الفترة التي شهدت تطورا في العمل العسكري الميداني لجيش التحرير، وحققت القضية الوطنية انتصارات في المحافل الدولية. ولهذا، يؤكد يحياوي، فإن الإدارة الاستعمارية لجأت إلى التشويش على هذا الوهج التحرّري، من خلال توسيع جرائم الإعدام بالمقصلة بداية من جوان 1965. وكان من أشهرهم الشهيد أحمد زبانة ورفيقه فراش، اللذين كانا ضحية سياسية جديدة اعتمدت، حينذاك، عنوانها المقصلة للحد من التفاف الشعب بالثورة.

 

إعدام المناضلين بحجة حفظ النظام العام

 

من جهة ثانية، يتابع الأكاديمي ذاته، كانت السلطات الاستعمارية تحاول إيجاد الغطاء القانوني للأعمال الإجرامية، مبرّرة أنها عمليات تندرج في إطار حفظ الأمن الداخلي العام، متيحة لنفسها إجازة تنفيذ جرائم ضد المناضلين الجزائريين السجناء.

ولذلك، تنفيذ هذه الأحكام، حسب المؤرخين والباحثين في تاريخ الثورة، هي جريمة حرب، لأن المناضلين والسجناء صنّفتهم ضمن مجرمي القانون العام، وإبعاد صفة الوطنية والمقاومة عنهم.

 

إعدام القُصّر والمناضلين السياسيين في التراب الفرنسي

 

ومن الصفحات القاتمة في تاريخ فرنسا الدموي في الجزائر أن الإعدامات لم تستثن حتى صغار السن، ومنهم الشهيد عبد الرحمان خليفي الذي كان قاصرا وتعرّض للإعدام، كما أن هذه السياسة شملت المناضلين في التراب الفرنسي. وما هو ثابت ومتعارف عليه أن سياسة الإعدام كان يسبقها ارتكاب جرائم ضد المحكوم عليهم، تعرّضهم للتعذيب والتنكيل لأشهر قبل أن ينفذ فيهم الحكم، لترهيب المناضلين والسجان، من خلال نقل هذه الأعمال الإجرامية عليهم.

ولا يمكن لفرنسا أن تمحو أو تتنصل من مسؤوليتها تجاه تلك الفظائع، لأن كل ذلك كان برعاية رسمية ويمثل سياسة دولة، وليس هناك دليل أقوى من كون وزير العدل آنذاك فرانسوا متيران الذي أصبح رئيسا للجمهورية فيما بعد، قد شرعن عمليات الإعدام حينما كان يشغل منصب وزير عدل ونائب المجلس الأعلى للقضاء، وهو الذي كانت له يد طولى في ممارسة الإعدام لسنوات، وهذا ما ثبت من خلال الكتاب الذي صدر مؤخرا تحت عنوان "فرانسوا متيران وحرب الجزائر".