من النماذج القاتمة في تاريخ فرنسا الإجرامي بالجزائر، يعيد الدكتور محمد شريف سيدي موسى، أستاذ التاريخ جامعة البليدة 2، إلى الأذهان جريمة نفي الأمير عبد القادر الجزائري، وغدر فرنسا الرسمية به وبقياداته وكوادر مقاومته.
يقول الدكتور سيدي موسى، في تصريح لـ"الخبر"، إن "بشاعة الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستثمارية في حق الأمة الجزائرية خلّفت خزانا من الجراح التي لم تلتئم بعد، وأخرى لاتزال تنزف بقوة ومفتوحة على آلام متفاقمة، بسبب ملف الذاكرة المشتركة بين البلدين وتداعياتها على العلاقات بين القطرين الجزائري والفرنسي".
ويؤكد الأكاديمي، بهذه المناسبة، أن الجزائر "تعرضت بشكل كبير للتهجير القسري منذ بداية الاحتلال سنة 1830، وهو أسلوب عبّر عن سياسة ممنهجة نفذتها الإدارة الاستعمارية في حق الجزائريين، إما بترحيل السكان مباشرة من مناطق استقرارهم بالقوة أو عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة، باستخدام وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد"، وكانت نتائجها حسب ما يؤكده الأستاذ: "وخيمة على الأفراد والأسر الجزائرية التي جرّدت من ممتلكاتها وأراضيها الخصبة".
ويذكر المختص في التاريخ أن جنرالات فرنسا، في تلك الفترة، رفعوا شعار إبادة شعب ليحلّ محله شعب آخر من أوروبا، ويجب أن تكون الهجرة الأوروبية إلى الجزائر عارمة وجارفة حتى يصبح المعمّرون أصحاب الأرض وأربابها.
وفي بدايات الاحتلال، اتخذت إدارة الاحتلال الفرنسي جملة من القوانين والتشريعات، مثل أمرية سنة 1834 وقانون 1840 ومرسوم 1844، وغيرها من القوانين الجائرة بهدف التخلص من الأمة الجزائرية نهائيا، ومصادرة أراضيها خشية التأثير على المقاومين ضد الاستعمار.
ويؤكد الباحث، أيضا في هذا الشأن، أن حملات التهجير والنفي إلى جزيرة كاليدونيا وكورسيكا وكيان بغويينا في المحيط الأطلسي وإلى سجن السات وقصر لامبواز في فرنسا ذاتها، وهو القصر الذي احتجز فيه الأمير عبد القادر، ولم يكن هذا القصر في حقيقته سوى سجن لقائد المقاومة الجزائرية وعائلته والعديد من أتباعه. قبلها، تعهّدت فرنسا بعد إبرام الأمير لمعاهدة السلام معه عام 1847، إعطاء الأمان لجميع رفاقه وجنوده بالالتحاق بمواطنهم وقبائلهم، وخرج الأمير من الجزائر للالتحاق بالمشرق العربي عبر محطتي الإسكندرية وعكا.
لكن فرنسا لا يعرف لها إيفاء بالعهود والمواثيق، حيث "غيرت وجهة الرحلة البحرية للأمير نحو الجنوب الفرنسي، وحتما أن الأمر كان مدبرا بين قادة الاحتلال في الجزائر والسلطات العليا في فرنسا"، بحسب الأستاذ الجامعي. وتم اقتياد الأمير إلى قصر لامبواز، وأكيد أيضا أن مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة لم يكن يعيش حياة القصور، إذ بقي الأمير عبد القادر أسيرا مع أفراد عائلته وأتباعه الذين تجاوز عددهم المائة مدة أربع سنوات من 1848 إلى غاية 1852، حيث أطلق سراحه بعد أن فقد العديد من أفراد أسرته وأحبته، فتوجه صوب المشرق ساخطا على فرنسا وعلى نفاق سياستها.
ولا يزال ملف النفي القسري للأمير عبد القادر الجزائري وأتباعه، حسب ذات الأكاديمي "جريمة فرنسية أخرى ضد رمز من رموز البطولة والجهاد والتحرّر، وجريمة يعاقب عليها القانون الدولي، لا تذهب بالتقادم ولا يمكن طيّها بالنسيان".