إن الدين المراد حفظه خاصة من خواص الإنسان الفرد، وظاهرة من ظواهر المجتمع، يسمو بهما إلى معاني الإنسانية، فيميزهما بذلك عن مرتبة الحيوانية، ومن ثم فهو يمثل مجموع عناصر النظام الذي ينظم علاقات الأفراد مع ربهم ومع أنفسهم ومع بعضهم بعضا، أي النظام الذي يسيّر المجتمع، ويضمن سلامة سيره العادي دون خلل واقع أو متوقع حصوله.
والمقصود بحفظ الدين يتجسد في حفظ معانيه الثلاثة – الإسلام، والإيمان، والإحسان – كما عبر عن ذلك الشاطبي، ولتمام تحقيق ذلك، جاءت الشريعة بمجموعة من الأحكام والتصرفات المنوطة بهذه المهمة، تتمثل فيما يلي:
حفظه من جانب الوجود
فأصول العبادات راجعة إلى هذه الجهة كالإيمان لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ - وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} النساء:١٣٦، وتحقيق الشهادتين لقوله صلّى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”، وقيام الأفراد بما بكل ما هو فرض على الأعيان كإقام الصلاة، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ - فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ - إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } النساء:١٠٣، وصيام رمضان، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:١٨٣، وكذا أداء ما فرض على الأغنياء في أموالهم لصالح الفقراء، بل هو حقهم الذي فرضهم الله لهم قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} البقرة:43، وكذلك حج البيت إن توافرت الاستطاعة المادية والبدنية لذلك، حيث قال تعالى: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } آل عمران:٩٧، وكذلك قيام المجتمع بما هو فرض عليه على الكفاية، كصلاة الجنازة، وطلب العلم؛ للتمكن من فهم الدين وتبليغه للغير، وتبيين فروضه، وأركانه وسننه، وغيرها، وتمكين شعائره في النفوس وتعظيمها، حيث قال تعالى: { وَمَا كَانَ ٱلمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّة فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَة مِّنهُم طَآئِفَة لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَومَهُم إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ} التوبة:١٢٢، وقال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} الحج:32، وإقامة الولاية العامة التي بها يقام النظام ويحفظ الدين وتصان بيضة المسلمين، وبإقامة مجموع ما سبق ذكره يتحقق حفظ الدين من جانب الوجود.
حفظه من جانب العدم
وتحقيق هذا الجانب من جهة الأفراد يتم بإقامتهم واجب الجهاد الأكبر، المتمثل في تخليص النفس من خيوط الشيطان وسلطان الهوى، وكذا حفظ الفرد المسلم من أن يتطرق إليه ما يشوش اعتقاده ويفسده، كانتشار المذاهب الكافرة والمنحرفة، وعدم إكراهه على الدين، ما يجعل استجابته الخاضعة لقانون الإكراه معرضة للزوال في أية لحظة سمحت الظروف بذلك، قال تعالى: { لَا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱستَمسَكَ بِٱلعُروَةِ ٱلوُثقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة:٢٥٦، وتجنيب الفرد مواقع الفحشاء والمنكر، وذلك بالتمسك بأركان الدين والمحافظة عليها، قال تعالى: {ٱتلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيكَ مِنَ ٱلكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنهَىٰ عَنِ ٱلفَحشَآءِ وَٱلمُنكَر وَلَذِكرُ ٱللَّهِ أَكبَرُ وَٱللَّهُ يَعلَمُ مَا تَصنَعُونَ} العنكبوت:٤٥، وعلق الغزالي على هذه الآية فقال: “وما يكف عن الفحشاء فهو جامع لمصالح الدين، وقد تقترن به مصلحة الدنيا أيضا”، كما يتم ذلك أيضا بتحكيم قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بها، فإنها ضمان قوي لحفظ الدين من جانب العدم، حيث يقول الإمام الشاطبي: “ولكن بواسطة العادات والجنايات، ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم”، والذي يفهم من كلامه هذا أن قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تقتصر على حفظ الدين فقط، بل تحفظ جميع الكليات من جانب العدم حال تطبيقها ورعايتها.
أما تحقيق هذا الجانب من جهة المجتمع، فيكون بالنهي عن الفتنة في الدين لأنها بمنزلة القتل، بل أشدّ منه أثرا وخطرا، لذلك قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} البقرة:١٩١. وقال صلّى الله عليه وسلم: “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”، وكذا القيام بواجب الجهاد لحماية البيضة، والذب عن الحوزة الإسلامية، وتمكين الدين في الأرض وتبليغه، كما يجب دفع كل ما يؤدي إلى إبطال أصوله القطعية، ومنع الابتداع غير المشروع الذي يفضي إلى الزيادة فيه والابتعاد عن جوهره.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر